بسم الله الرحمن الرحيم
الوهابية والمسلم الآخر
ثغرات فى جدار الأمة
الوهابية والمسلم الآخر
ثغرات فى جدار الأمة
المقدمة
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد:
ان التحولات
الكبرى فى حياة الأمم لا تتحقق الا بالوقوف على مواطن الخلل فيها ونقدها وتفنيدها
ثم ايجاد الحلول الناجعة لها. ولا حلول نافعة الا بوجود أمة ترتبط بمصير واحد,
وتعتصم بحبل واحد, ولما كان الفكر الوهابى من شأنه تفكيك هذه الوحدة, بما يمارس من
عداء للمسلم الآخر, صار لزاما علينا أن نشارك بشى من التحليل لبييان الخلل فى هذا الفكر , عسانا نفتح نافذة للتحول الأكبر
لأمة أقعدها الخلاف عن ركب الحضارة, فأصبحت تتبع سننا غير سننها لعلها تبصر فى
ظلام الخلف نورا, وقد قال رسول الله(ص): (( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر
وذراعا بذراع, حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يارسول الله اليهود والنصارى؟
قال: فمن )). البخارى- كتاب الانبياء- باب ماذكر عن بنى اسرائيل
وماهذه التبعية
المذلة الا من ثمرة التنازع بين أمة دينها واحد, وربها واحد ورسولها سيد الخلق
محمدا(ص). قال تعالى(( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم))
الانفال . وقد ذهبت الريح. وقد ساهم الفكر الوهابى فى ذهاب هذه الريح, بما
يحتضن من فكر التنازع, وبغض الآخر. وأى آخر, الآخر الذى يشهد ان لا اله الله وأن
محمدا رسول الله(ص).
ان التحول
الذى ننشده لا ينتهى عند قوله تعالى(( انما المؤمنون اخوة)) ولكن يمض مرتكزا على
هذه الاخوة لاعمار هذا الكون, فتكون اخوة الايمان هى النبع الذى يتفرع منه العطاء للانسانية كافة, مثلها فى ذلك
مثل النبة الطيبة يفوح طيبها, فتننشى منه أنوف العالمين, اننا أمة رسول وصفه ربه
فقال: (( وما أرسلناك الا رحمة للعالمين)). وحدث هو عن نفسه(ص) فقال: (( انما أنا
رحمة مهداة )). فالتابع له من المتبوع نصيب, ان عرف قيمة من يتبع, وعظيم ما يحمل
من هدى ورحمة.
ان المدينة الفاضلة التى بشر بها الفلاسفة,
وتنادوا اليها, ولا يزالون, انما هى أفكار مثالية راقية, لم يستطيعوا هم أنفسهم أن
يسعدوا البشرية بها واقعا معاشا, لسموا الفكرة حتى على حملتها, مع ضحالة الواقع
الحياتى للناس حينها. ولكن لما ظهرت الدعوة المحمدية بما تحمل من منهج أخلاقى
عالمى, فاق الفلسفة طهارة ونبلا, وكان المبشر به(ص) قد كمل فيه مايبتقيه المتبوع
من التابع (( انك لتصل الرحم, وتحمل الكل, وتكسب المعدوم, وتقرى الضيف, وتعين على
نوائب الحق)). البخارى كتاب بدء الوحى, ومع ذلك
كله هو رسول الله المؤيد بالوحى, وفق عليه الصلاة والسلام فى خلق أمة شهد لها ربها
أنها خير أمة أخرجت للناس. وحتى تكون على يقين من أن الأسوة الحسنة التى كانت تصل
الرحم... أثمرت بالتربية والتزكية شوامخا,أصبحوا ساسة للمدينة الفاضلة بعد رسولهم(ص)
فهاك الفاروق (( وفد الأحنف بن قيس التميمى فى وفد من العراق فى يوم صائف شديد
الحر, وعمر محتجز بعباءة يهنأ بعيرا من أبل الصدقةو فقال: ياأحنف! ضع ثيابك وهلم
فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير, فانه من ابل الصدقة, وفيه حق لليتيم والمسكين
والأرملة, فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبدا من
عبيد الصدقة, فيكفيك هذا, فقال عمر: وأى عبد أعبد منى ومن الأحنف. انه من ولى أمر
المسلمين فهو عبد المسلمين, يجب عليه لهم مثل مايجب على العبد لسيده من النصيحة
وأداء الأمانة)). تاريخ عمر-ابن الجوزى ولن نجد-
والحالة هذه- بيانا شافيا نترجم به مفهوم المدينة الفاضلة من مضوى, أو منشور تاريخ
البشر بأعظم من حال مدينة رسول الله(ص).
وبعد فهذا جهدنا المتواضع, أملته علينا حاجة
الأمة الى التغيير, من غثاء كغثاء السيل, الى أمة هى خير أمة أخرجت للناس.
سماحة مفقودة :
إن من اليقينيات في الإسلام والتي أضحت من ثوابت
جمهرة الأمة فضلا عن متخصصيهم إن الرسول(ص) أسس بقوله(المسلم من سلم المسلمون من
لسانه ويده) متفق عليه منهجا للحياة الإسلامية
الراقية والتي يطمئن فيها المسلم على إنسانيته من غير تكدير لصفوها,حياة لا تدرى
ما الجنوح ولا ونبذ الآخر, حياة تتدثر بعباءة الرحمة تروح وتغدو في سياج من الحب
منيع, قال النبي الأكرم(ص) (لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه( أو قال لجاره) ما يحب
لنفسه) مسلم كتاب الايمان فإذا انفعل المسلم جوا
نيا مع هذا النص المحمدي وطبقه سلوكا حركيا في حياته لتأكد للعالمين أن الإسلام
ملاذ للانعتاق من رق الدنيا وملجا للخائفين من المجهول.
لقد آخى النبي(ص) في المدينة بين المهاجرين
والانصارفضربوا بصدق المقصد أروع ما عرفته الحضارات من رغبة جامحة صادقة في حب
الخير ( إنما المؤمنون أخوة ), فأصل النبي(ص) بهذه التوجيه الرباني في أصحابه
مفهوم الاخوة فأضحى الأصحاب (( كأنهم الجسد الواحد )), وان شئت قلت أصبحوا روحا واحدة في أجساد شتى, أخرج
ابن جرير عن ابن عمر قال تداولت سبعة أبيات – من أصحاب رسول الله - رأس شاة يؤثر بعضهم بعضا وأن كلهم لمحتاج إليه
حتى رجع إلى البيت الذي خرج منه, هذا الإيثار كان محصلة لجهاد متواصل تزكت فيه
الأنفس فأثمر هذه الرحمة المتبادلة, وهذا الحب الفياض الذي يعجز عنه البيان, وكل
ذلك من نبع رحمته صلى الله عليه وسلم قال: (( إنما أنا رحمة مهداة )) سنن الدارمى كتاب النبى.
ولم ينته هذا الحب المر كوز في جوا نية أصحاب
رسول الله(ص) عند من شهد شهادة الإسلام بل أتحفوا به من خالفهم فيها, حين اقبل
رسول الله(ص) بالأسارى يوم بدر فرقهم بين أصحابه , وقال(ص) : (( أستوصوا بالأسارى
خيرا )) أخرجه الطبرانى فى الكبير قال الهيثمى: اسناده
حسن- البيان والتعريف ج1,ص50 وكان أبو عزيز أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه فى
الأسارى. فقال أبو عزيز : كنت فى رهط من الأنصار حين أقبلوا بى من بدر, فكانوا إذا
قدموا غداءهم وعشاءهم خصونى بالخبز, وأكلوا التمر, لوصية رسول الله إياهم بنا, ما
تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها. قال: فأستحيى فأردها على أحدهم, فيرده
على ما يمسها.
هذا الإسلام يريد منا أن نطمئن من لا يؤمن
به حتى يتعرف عليه,( أذهبا إلي فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو
يخشى) ثم نسوقه من بعد ذلك إلى بر الأمان حتى ولو رد علينا الإسلام بعد اقامة
الدلائل الواضحات والحجج البينات, قال تعالى( وان أحد من المشركين استجارك فأجره
حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأ منه). ولعلك تلمح في قوله(ص): ( مازال جبريل
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه مفهوم المجتمعية الرحيمة الدافعة للشر عن الجار
الجالبة للخير له من غير اعتبار للجنس أو اللون أو الدين,قال ابن حجر في فتح
الباري: (( وأسم الجار يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو
والقريب, وقد حمله- أي الحديث- عبد الله بن عمرو أحد من روى الحديث على العموم
فأمر لما ذبحت له شاة أن يهدى منها لجاره اليهودي, أخرجه البخاري في –الأدب المفرد- والترمذى وحسنه, وقد وردت الإشارة إلى ما
ذكرته من حديث مرفوع أخرجه الطبرانى من حديث جابر رفعه ( الجيران ثلاثة : جار له
حق وهو المشرك له حق الجوار ...)). كذلك
ورد في السنة من الوعيد الذي تهابه النفوس قوله(ص): (( والله لا يؤمن والله لا
يؤمن والله لا يؤمن قيل: ومن يا رسول الله؟ قال الذى لا يأمن جاره بوائقه )) البخارى كتاب الأدب, وقد ذكر أهل العلم أن للجار الكافر
حق الجيرة يحفظ ولا يهضم, فان كان ذلك كذلك, فان المؤمن الذى لا يأمن جاره الكافر
بوائقه يشمله قوله (( والله لا يؤمن )), لأن الجار الموصى به – وقد فصل القول فيه
ابن حجر آنفا - هو نفسه الجار الذى لايبلغ
المؤمن الذى أنزل به بوائقه تمام الايمان. فاى أنسانية هذه ودعوة للآخر ان هلم.
ثم ألا يدهشك والحالة هذه إذا عرفت أن ألد أعداء
رسول الله(ص) كانوا جيرانه, قال ابن إسحاق : كان النفر الذين يؤذون رسول الله(ص)
في بيته أبا لهب, والحكم بن أبى العاص بن أمية, وعقبة بن أبى معيط, وعدى بن حمراء
الثقفي, وابن الأصداء الهذلى - وكانوا جيرانه- لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبى
العاص فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلى, وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا
نصبت له, حتى اتخذ رسول الله حجرا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله(ص) إذا
طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود, فيقف به على بابه, ثم يقول :( يابنى عبد
مناف, أي جوار هذا؟ ) ثم يلقيه في الطريق.
لقد غرس النبي(ص) في أصحابه الشعور بالآخر
والإحسان إليه, وعلمهم أن الإنسانية هي المعتبرة في هذا المناخ, فنهضوا بهذا
الإدراك الأصيل لمفهوم الإنسانية راغبين في خلق مجتمع تسوده المحبة في كل اتجاهاته
, أليس هو القائل(ص): (( ما من مسلم غرس غرسا فأكل منه إنسان أو دابة الا كان له
صدقة )) البخارى كتاب الأدب. حتى الدابة نالت
نصيبها من رحمته(ص) كما ترى. ثم ألم يحدث النبي(ص) أصحابه فقال: (( بينما رجل
بطريق اشتد عليه العطش , فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل
الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ منى فنزل
البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له : قالوا يا رسول الله وان لنا
في البهائم لأجرا ؟ فقال : في كل ذات كبد رطبة أجر )) متفق
عليه
قال أبن حجر في
فتح الباري : (( وفيه – أي الحديث – الحث على الإحسان إلى الناس لأنه إذا حصلت
المغفرة بسبب سقى الكلب فسقى المسلم أعظم أجرا , واستدل به على جواز صدقة التطوع
للمشركين , وكذا إذا دار الأمر بين البهيمة والآدمي المحترم واستويا في الحاجة
فالآدمي أحق)) .
كل ذلك إن دل
فإنما يدل على أن الإسلام لم يكن يوما منكفئا على أهله ويصد الآخر ويسعى في هلاكه
, فقد قال(ص) : ( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )البخارى
كتاب العلم, ولما عصت دوس أمر الله ورسوله(ص) , جاء الطفيل بن عمرو الدوسى
إلى النبي(ص) فقال : إن دوسا قد عصت أبت , فادع الله عليهم , فأستقبل رسول الله(ص)
القبلة ورفع يديه , فقال الناس هلكوا. ولكن رسول الله راح يدعو لدوس قائلا : ((
اللهم اهد دوسا وائت بهم , اللهم اهد دوسا وائت بهم , اللهم اهد دوسا وائت بهم ))
. ولما جاء ملك الجبال ليطبق الأخشبين على أهل مكة, أبى النبى(ص) لأنه يحب أن يخرج
الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا. وهو القائل لأبى الحسنين ( لان يهدى الله بك
رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ), أقول وهل من سبيل إلى هداية الناس إلا بذات
التوجيه الرباني (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
أحسن ) ؟ .
إن النبي(ص) كان حريصا على هداية الناس يحب لهم
صلاح الدنيا والفوز بالجنة , لما حضرت وفاة أبى طالب أتاه رسول الله(ص) فقال : ((
يا عماه قل لا اله إلا الله أشهد لك يوم القيامة )), فلو تأملت هذه المشهد لأيقنت
انه ما من سبيل يفضي بك إلى قلوب العالمين إلا هذا السبيل. فالرحيم تهفو إليه
الأفئدة وتحن إليه الأرواح, حتى وان كانت من غير البشر, جاءت حمرة ترف على رأسه
الشريف وكأنها تشكو له ظلما فقال(ص) : (( أيكم فجع هذه ببيضتها ؟ فقال رجل : يا
رسول الله, أنا أخذت بيضتها, فقال النبي(ص) : (( ارددها رحمة لها )).
ودخل النبى(ص)
حائط رجل من الأنصار فاذا جمل, فلما رأى النبى اغرورقت عيناه, فأتاه النبى فمسح
رأسه وسراته وذفريه فسكن ثم قال من رب هذا الجمل لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من
الأنصار فقال: هو لى يارسول الله فقال(ص): (( الا تتقى الله فى هذه البهيمة التى
ملكك الله عز وجل اياها فانه شكا الى أنك تجيعه وتدئبه)). ابن عساكر ج4
التوحيد المفترى عليه :
وبالمناسبة – التى تبدت
في سياق الحديث عن النطق بالشهادة- التى طلبها النبى(ص) من عمه- وأحسب أن ذلك مدخلا
أساسيا لدراسة الفكر الوهابي – إننا لم نعلم فيما نعلم أن أحدا من الذين نطقوا
بالشهادة بين يدي رسول الله(ص) , الزمه النبي(ص) بغير ما نطق به, أو بشي يكمل به
ما نطق به, فلم يقل لأحد أجملت النطق بالشهادة – أي أتيت بها – ولكن هنالك تفصيل,
فالتوحيد ينقسم إلى توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية , وانتم معشار الجاهلية كنتم
تؤمنون بتوحيد الربوبية , ولم يدخل عليكم الشرك إلا من توحيد الألوهية , فاعرف منى
هذا, ووحد توحيد الألوهية.
فهل نقل مثل
هذا التفصيل عن رسول الله(ص)؟ فان كان الجواب بالنفى. فمن أين جاء به الوهابية؟
لأن هذا التفصيل ما انفك الوهابية يفرقون به
الأمة إلى ناجين وهالكين , واقروا به كثيرا من السفهاء يطعنون به في عقيدة
مخالفيهم .
قال الشيخ
الدجوى : جائتنا رسائل كثيرة يسأل مرسلوها عن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية , ما
معناها, ومالذى يترتب عليها , ومن الذى فرق بينهما, وما هو البرهان على صحة ذلك أو
بطلانه ؟
فنقول وبالله
التوفيق: إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد ذكره . قال إن الرسل لم يبعثوا
إلا لتوحيد الألوهية وهو إفراد الله بالعبادة , وأما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن
الله رب العالمين المتصرف في أمورهم فلم يخالف فيه أحد من المشركين والمسلمين ,
بدليل قوله تعالى : (( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله )) ثم قالوا
: إن الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء ويتشفعون بهم وينادونهم عند الشدائد هم
عابدون لهم , قد كفروا بما كفر به عباد الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء ,
فانهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها, بل بتركهم توحيد
الألوهية بعبادتها , وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء المنادين
لهم, المستغيثين بهم, الطالبين منهم مالا يقدر عليه إلا الله تعالى. (( بل قال
محمد بن عبد الوهاب: إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان, وان شئت ذكرت لك عبارته
الجريئة )) .
فهذا ملخص
مذهبهم مع الإيضاح, وفيه دعاوى. فلنعرض لها على سبيل الاختصار, ولنجعل الكلام في
مقامين فنتحاكم إلى العقل ثم نتحاكم إلى النقل, فنقول:
قولهم :
إن التوحيد ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية, تقسيم غير معروف لاحد قبل
ابن تيميه, وغير معقول ايضا كما ستعرفه , وماكان رسول الله يقول لاحد دخل فى
الاسلام : ان هناك توحيدين , وانك لا تكون مسلما حتى توحد توحيد الالوهية , ولا
أشار إلي ذلك بكلمة وأحدة, ولا سمع ذلك من أحد من السلف الذين يتبجحون باتباعهم في
كل شي , ولا معنى لهذا التقسيم , فان الإله الحق هو الرب الحق, والإله الباطل هو
الرب الباطل, ولا يستحق العبادة والتأليه إلا من كان ربا.
ولا معنى لان
نعبد من لا نعتقد فيه انه رب ينفع ويضر.., فهذا مرتب على ذلك, كما قال تعالى: ( رب
السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته ) فرتب العبادة على الربوبية,
فإننا إذا لم نعتقد انه رب ينفع ويضر, فلا معنى لان نعبده كما قلنا . ويقول تعالى
: ( الا يسجدوا لله الذى يخرج الخبء فى السموات والارض ) يشير الى انه لا ينبغى
السجود الا لمن ثبت اقتداره التام, ولا معنى لان يسجدوا لغيره.
هذا هو
المعقول, ويدل عليه القرآن والسنة:
أما القرآن
فقد قال : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين اربابا ) فصرح بتعدد الارباب
عندهم.
وعلى الرغم من
تصريح القرآن بأنهم جعلوا الملائكة أربابا, يقول ابن تيميه, ومحمد بن عبد الوهاب:
انهم موحدون توحيد الربوبية وليس عندهم الا رب واحد وانما اشركوا فى توحيد
الالوهية. ويقول يوسف – عليه السلام – لصاحبي السجن وهو يدعوهم إلى التوحيد: (
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) ويقول الله تعالى أيضا: ( وهم يكفرون
بالرحمن قل هو ربى ) وأما هم فلم يجعلوه ربا. ومثل ذلك قوله تعالى: ( لكنا هو الله
ربى ) خطابا لمن أنكر ربو بيته تعالى. وانظر إلى قولهم يوم القيامة: ( تاالله إن
كنا لفي ضلال مبين, إذ نسويكم برب العالمين). (( أي)) في جعلكم أربابا كما هو
ظاهر. وانظر إلى قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن
أنسجد لما تامرنا ) فهل ترى صاحب هذا الكلام موحدا أو معترفا ؟ ثم انظر الى قوله:
( وهم يجادلون فى الله) الى غير ذلك وهو كثير لا نطيل بذكره .
فأذا ليس عند
هؤلاء توحيد الربوبية كما قال ابن تيميه, وما كان يوسف – عليه السلام – يدعوهم إلا
إلى توحيد الربوبية, انه ليس هناك شي يسمى توحيد الربوبية وشى آخر يسمى توحيد
الألوهية عند يوسف – عليه السلام – (( فهل هم أعرف بالتوحيد منه, أو يجعلونه مخطئا
في التعبير بالأرباب دون الآلهة ؟ )) .
ويقول الله في
أخذ الميثاق : ( ألست بربكم قالوا بلى ). فلو كان الإقرار بالربوبية غير كاف وكان
متحققا عند المشركين ولكنه لاينفعهم كما يقول ابن تيمية, ماصح ان يؤخذ عليهم
الميثاق بهذا, ولا صح أن يقولوا يوم القيامة : ( انا كنا عن هذا غافلين ) .
وكان الواجب
أن يغير الله عبارة الميثاق إلى مايو جب اعترافهم بتوحيد الألوهية حيث إن توحيد
الربوبية غير كاف كما يقول هؤلاء , إلى آخر ما يمكننا أن نتوسع فيه , وهو لا يخفى
عليك. وعلى كل حال فقد اكتفى منهم بتوحيد الربوبية , ولو لم يكونا متلازمين لطلب
إقرارهم بتوحيد الألوهية أيضا , ومن ذلك قوله تعالى : ( وهو الذي في السماء اله
وفى الأرض اله ) فانه اله فى الارض ولو لم يكن فيها من يعبده كما فى آخر الزمان.
فان قالوا : انه معبود فيها , أي مستحق للعبادة, قلنا : إذا لا فرق بين الآله
والرب, فان المستحق للعبادة هو الرب لا غير, وما كانت محاورة فرعون لموسى عليه
السلام إلا في الربوبية وقد قال : ( أنا ربكم الأعلى ) ثم قال : ( لئن اتخذت إلها
غيري لا جعلنك من المسجونين ) ولا داعي للتطويل في هذا.
وأما السنة فسؤال الملكين للميت عن ربه لا عن
إلهه, لا نهم يفرقون بين الرب والاله (( فانهم ليسوا تيميين ولا متخبطين )) وكان
الواجب على مذهب هؤلاء أن يقولوا للميت (( من الهك)) لا (( من ربك )) أو يسالوه عن
هذا وذاك .
وأما قوله :
( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في
قلوبهم إجابة لحكم الوقت, ومضطرين لذلك بالحجج القاطعات والآيات البينات . ولعلهم
نطقوا بما لا يكاد يستقر في قلوبهم أو يصل إلى نفوسهم , بدليل أنهم يقرنون ذلك
القول بما يدل على كذبهم, وأنهم يجهلون الله تمام الجهل, ويقدمون غيره عليه حتى في
صغائر الامور . وأن شئت فانظر إلى قولهم لهود – عليه السلام - : ( إن نقول الا
اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) فكيف يقول ابن تيميه : انهم يعتقدون (( إن الأصنام لا
تضر ولا تنفع )) إلى آخر ما يقول ؟ :
ثم انظر بعد ذلك
إلى قولهم في زرعهم وأنعامهم : ( هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم
فلا يصل إلى الله وماكان لله فهو يصل إلى شركائهم ) فقدموا شركاءهم على الله تعالى
في أصغر الامور وأحقرها .
وقال تعالى في بيان اعتقادهم في الأصنام : ( وما نرى معكم شفعاءكم الذين
زعمتم أنهم فيكم شركاء ) فذكر أنهم يعتقدون أنهم شركاء فيهم . ومن ذلك قول أبى سفيان يوم أحد : أعل هبل ,
فأجابه – صلى الله عليه وسلم – بقوله : (( الله أعلى وأجل )) .
فانظر إلى
هذا ثم قل لي ماذا ترى في ذلك التوحيد الذى ينسبه ابن تيميه إليهم ويقول : انهم
فيه مثل المسلمين سواء بسواء, وانما افترقوا بتوحيد الالوهية !. ثم انظر بعد ذلك
إلى قوله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربى ) ( أي ) وأما هم فلم يجعلوه ربا
. ومثل ذلك قوله تعالى ( لكنا هو الله ربى ) خطا بينا
لمن انكر ربوبيته تعالى : وانظر الى قولهم يوم القيامة : ( تا الله ان كنا لفى
ضلال مبين اذا نسويكم برب العالمين ) ( أى ) فى جعلكم أربابا كما هو ظاهر لغير
المتعسف . وانظر الى قوله تعالى : ( واذا
قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ) فهل ترى هذا كلام موحد أو معترف ؟ ثم
انظر الى قوله : ( وهم يجادلون فى الله ) الى غير ذلك مما يطول شرحه.
فهل ترى لهم
توحيدا بعد ذلك يصح أن يقال فيه انه عقيدة ؟
أما التيميون فيقولون بعد هذا كله : انهم موحدون توحيد الربوبية , وان
الرسل لم يقاتلوهم إلا على توحيد الألوهية الذي لم يكفروا إلا بتركه , ولا أدري ما
معنى هذا الحصر مع انهم كذبوا الأنبياء , وردوا ما انزل عليهم , واستحلوا المحرمات
, وأنكروا البعث واليوم الآخر , وزعموا أن لله صاحبة وولدا , وأن الملائكة بنات
الله ( ألا انهم من إفكهم ليقولون . ولد
الله وانهم لكاذبون ) ... الخ. وذلك كله لم يقاتلهم عليه الرسل فى راى هولاء .
وإنما قاتلوهم على عدم توحيد الألوهية كما يزعمون , وهم بعد ذلك مثل المسلمين سواء
أو المسلمون أكفر منهم في رأى ابن عبد الوهاب!
وما علينا من ذلك كله , ولكن نقول لهم بعد
هذا : على فرض ان هناك فرقا بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية – كما يزعمون –
فالتوسل لا ينافى توحيد الألوهية , فانه ليس من العبادة في شي لا لغة ولا شرعا ولا
عرفا , ولم يقل أحد ان النداء أو التوسل بالصالحين عبادة , ولا أخبرنا الرسول بذلك
, ولو كان عبادة أو شبه عبادة لم يجز بالحي ولا بالميت .
ومن المعلوم ان
المتوسل لم يطلب إلا من الله تعالى بمنزلة هذا النبي أو الولى , ولا شك في أن لهما
منزلة عند الله – تعالى – فى الحياة وبعد الممات .
فان تشبث متشبث
بان الله أقرب إلينا من حبل الوريد فلا يحتاج إلى واسطة , قلنا له : حفظت شيئا وغابت
عنك أشياء , فان رأيك هذا يلزمه ترك الأسباب والوسائط فى كل شى , مع أن العالم
مبنى على الحكمة التى وضعت الاسباب والمسببات في كل شي . ويلزمه عدم الشفاعة يوم
القيامة وهى معلومة من الدين بالضرورة , فإنها على هذا الرأي لا حاجة إليها , إذ
لا يحتاج سبحانه إلى واسطة فانه أقرب من الواسطة , ويلزم خطأ عمر بن الخطاب في
قوله : انا نتوسل إليك بعم نبيك العباس ... الخ .
وعلى الجملة
يلزم سد باب الأسباب والمسببات والوسائل والوسائط , وهو خلاف السنة الإلهية التي
قام عليها بناء هذه العوالم كلها من أولها إلى آخرها , ولزمهم على هذا التقدير أن
يكونوا داخلين فيما حكموا به على المسلمين , فانه لا يمكنهم أن يدعوا الأسباب أو
يتركوا الوسائط, بل هم أشد الناس تعلقا بها وأعتمادا عليها.
ولا يفوتنا أن نقول
: إن التفرقة بين الحي والميت في هذا المقام لا معنى لها , فان المتوسل لم يطلب
شيئا من الميت أصلا, وانما طلب من الله متوسلا اليه بكرامة هذا الميت عنده أو
محبته له أو نحو ذلك, فهل فى هذا كله تاليه للميت أو عبادة له , أم هو حق لا مرية
فيه , ولكنهم قوم يجازفون ولا يحققون ؟ كيف وجواز التوسل بل حسنه معلوم عند جميع
المسلمين !
وانظر
كتب المذاهب الأربعة (( حتى مذهب الحنابلة )) في آداب زيارته : تجدهم قد استحبوا
التوسل به إلى الله تعالى , حتى جاء ابن تيميه فخرق الإجماع وصادم المركوز فى
الفطر, مخالفا فى ذلك العقل والنقل)) .
إن العقلاء الذين
لا يرون سهولة في رمى الأمة بالظنون , يتأدبون مكتفين بقوله صلى الله عليه وسلم
لإسامة حين قتل من قال – لا اله إلا الله – ظانا انها تقية : ( هلا شققت عن قلبه
). فتح البارى كتاب الديات اما المتنطعون فلا
يسعهم ما وسع العقلاء من الكف عن أهل – لا اله إلا الله – والزج بهم في متاهات ما انزل الله بها من سلطان.
وأنى لاعجب
لتفريقهم بين توحيد الالوهية وتوحيد الربوبية, مع قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله ). وهل المراد من الأرباب في الآية إلا المعبودون .
أغاليط مذقت الأمة :
لقد أصبحت
المملكة العربية السعودية – تزامنا مع المؤتمر الدولي لمكافحة الارهاب بالرياض –
تتكلم عن ( الفئة الضالة ) وتصفها بذات الاحاديث التى وصف بها رسول الله(ص)
المتعسفين فى استعمال الحق , وهى ذات الاحاديث التى وصف بها علماء الصوفية
الوهابية منذ نشاتها .
وان مما يؤسف
عليه أن القناة السعودية الأولى , وهى تقدم برنامجا – مع الأحداث – لا تلقى
بالتبعة على الداخل, بل توجه التهم إلى الخارج, كأن الداء لايسرى في أجسادهم , فقد
خرجوا علينا بحلقة عنوانها – ماذا يريد هؤلاء؟ - وكان الأنفع والأسرع إلى اجتثاث
هذه الآفة أن يسألوا أنفسهم – من صنع هؤلاء ؟ - حتى ينقلب بهم هذا السؤال بعد
الإجابة المحررة إلى موطن الداء, فيسهل الدواء.
إن إلقاء اللائمة
على حرب أفغانستان وجعلها مسار تحول للشباب السعودي – إلى الحالة التي أطلق عليها
سعوديا – الفكر الضال -, مذهب يفتقد المصداقية , فلم يكن الافغان يحملون من الفكر
الا ان السوفيت هم جناة معتدون على حرمة أمة مسلمة , ولكن لما تتابع البعث السعودي للنصرة – شأنهم
فى ذلك شأن كثير من أبناء المسلمين- تحركت معه – أعنى البعث السعودى- إلى ديار
الأفغان , مفاهيم الوهابية والتى أحدثت حينها شرخا في النسيج الفكري للعديد من
المجاهدين, لان صبغتهم التى اصطبغوا بها موروثة عن الأجداد لا تخرج عن أدبيات
التصوف – وان وجد بعض من الوهابية من قبل ولسنا على يقين من ذلك – فلم يستطيعوا-أعنى
الأفغان- أن يتكيفوا مع هذا الفكر الوافد, ولو لا ظروف الحرب مع الروس, وحكمة
القادة هناك, لبرزت تلك الخلافات, وقضت على المجاهدين.
هذا هو القول الحق, والذى لو شئنا لاستفضنا فيه
بيانا, لما نعرف من طبيعة تلك الأمة الأفغانية وأحوالها. ولعلك تلمح فى جنازة
المجاهد الشهيد \ أحمد شاه مسعود, وجعله بعد دفنه فى ضريح, تلك الصبغة الصوفية فى
حياة الأفغان, لتدرك البون الشاسع بين أهل الاضرحة, وأصحاب الفكر المتطرف. فلا
علاقة ولا ارتباط بين الفريقين, الا ما كان من ظروف الجهاد.
إن القفز
فوق الحقائق, يغيب كثيرا من مواطن الخلل, فيتعثر بالضرورة العلاج لتجاوز محله بحثا
عن عوامل ربما تكون ثانوية لا تعين على العلاج.
حقا لقد بان
للسعودية بعد ترسيخ لهذا الفكر, وتجذ ير له في المجتمع السعودي , وتصدير له بأموال
النفط إلى المسلمين-, انهم يسيرون في الطريق الخطأ, فأضحى ماكان بالامس دينا,
بذلوا فى رد خصومه مالو بذل على الفقراء لكفاهم – آفة يتكالبون على اجتثاثها.
إن العربية السعودية
اذا ارادت ان تسلم لها الايام, فاول واجباتها ان تردع من العلماء من يتزرعون ,
بانه اذا كان التطرف وليد الوهابية فلماذا لم يظهر هذا منذ عقود ؟
إن هذا اللف
والدوران لا يخدم المملكة إن صح سعيها للعلاج, لان الوهابية فكر أسس على نفى الآخر
– وهذا ما نعمل على إثباته – مادام هذا الآخر يخالف الرأي ,وهذا الشطط سار فى
أوصال هذه الجماعة كسريان الحياة فى الاجساد , وانهم اذا وجدوا محلا للعمل فيه,
انزلوا فيه ما يخرب بنيانه, وان شئت قلت , خلخلوا فيه مثل المؤمنين الذى دعا النبى(ص)
إليه, قال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ). وذلك الخراب
وتلك الخلخلة فى بنيان الأمة, بالكتب,والاصدارات الورقية, وبناء المساجد حيث
الكثافة الصوفية, الى غير ذلك مما يصنعون. لا للمشاركة فى الجهد الواحد وهو البلاغ, بل
لخلق الفتنة, وتمزيق الجسد الواحد.
وهذه
المقالة التى يتذرع بها علماء الوهابية الرد عليها يسير وهين , إنكم كنتم تصدرون
النار, ولا تكتوون بها, فلما أصابكم آخرها أنكرتم أولها.
ان الباحث
الحصيف لايعدم الدليل المحرر الذى يؤكد عنف الدعوة الوهابية منذ نشأتها, وأن
التطرف من منابعها. ولقد تناول هذا صاحب كتاب الدعوة الوهابية- عبدالكريم الخطيب-
والرجل من أنصار محمد بن عبدالوهاب, نذكر ذلك ليطمئن القارى بأن النقل, المثبت
لعنف الدعوة لم ناخذه الا من أنصار الدعوة,اذ يقول عبدالكريم الخطيب:
(( .. ثم وجدتنى
أبحث عن المصادر التاريخية التى أرخت لهذه الدعوة, وسجلت أحداثها, فلم أظفر على
الرغم من الجد فى البحث الا باشارات خافتة, أشم منها ريح التحامل المكشوف عليها,
ولم أعثر الا على كتاب واحد, هو: عنوان المجد فى تاريخ نجد.. الى مجموعة كتب
ورسائل من تأليف صاحب الدعوة أسعفنى بها المرحوم الشيخ حامد الفقى, رئيس جماعة
أنصار السنة المحمدية فى مصر.. فكانت تلك الكتب هى الطريق الذى اتخذته الى لقاء ((
محمد بن عبدالوهاب )) والتعرف الى بعض جوانب سيرته...)). الدعوة
الوهابية ص6
((وأيا كان, فقد عايشت
الدعوة الوهابية-يعنى فكرا- وتعاطفت مع الداعى اليها)). الدعوة
الوهابية ص7
وقد ذكر
الكاتب أن حفيد صاحب الدعوة, الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن ابراهيم آل الشيخ, قام
ببعض التعقيبات على كتابه,أثبتها الكاتب فى هذه النسخة التى بين ايدينا . ونحن
نثبت منها مادعت الحاجة اليه.
فاذا عرفت أن
الكاتب من أنصار الدعوة, فاشخص بعينيك الى ماسطرته انامله! يقول: (( ان الدم الذى
أريق فى سبيل الدعوة الوهابية دم غزير عزيز على الاسلام والمسلمين, وان الذى يأسى
له المرء أشد الأسى أن يلتقى مسلم ومسلم فى ساحة الحرب طمعا فى سلطان, أو ارضاء
لهوى, أو انتصارا لرأى!)). الدعوة الوهابية ص11 فاعجب من قوله- يلتقى مسلم ومسلم- فى حين يرى
أن المسلم الآخر ماخرج عليه صاحب الدعوة الا لبدعته وشركه.
يقول: (( أما الحروب
الوهابية فقد كانت حروب رأى عند أصحابها على الأقل, فما قاتل أصحابها وما قتلوا
الا دفاعا عن رأيهم الذى لم يحتمله العالم الاسلامى يومئذ, فرماهم بالكفر والمروق عن
الدين, ورموه بالكفر والمروق من الدين أيضا, والتقى السيف بالسيف على هذا الخلاف
بين الفريقين)).
تعقيب: (( يقول
سماحة الشيخ عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ, تعقيبا على هذا: لم تكن الحروب الوهابية
حروب رأى, وانما كانت حروب عقيدة وجهاد فى سبيل الرجوع بمن ضل الطريق, الى حظيرة
الصواب...)). الدعوة الوهابة ص12
يقول ابن
الخطيب : (( وبقى فى حرميلا- يعنى ابن
عبدالوهاب- يدعو بدعوته, وتبعه ناس من أهل هذا البلد ومالوا معه, ولكن أهل المنكر
والسوء أحاطوا به, وتآمروا علي قتله: فخرج منها الى بلدة العينية, ورئيسها يومئذ (
عثمان بن معمر) فتلقاه بالتكريم وزوجه احدى قريباته: ( الجوهرة بنت عبدالله بن
معمر), ومن هذا التاريخ تبدأ الدعوة فى مرحلة مع أمير العينية ( عثمان بن حمد بن
معمر) هذا , حيث عرض عليه عهدا على ان ينصر دعوته التى يدعو اليها قائلا له : ((
انى أرجو ان قمت بنصر (( لا اله الا الله)) أن ينصرك الله سبحانه وتعالى وتملك
نجدا وأعرابها)) فعاهده عثمان على ذلك, ومضى هو يعلن دعوته, وينقلها من طور القول
الى العمل, فقطع أشجارا كانت تعظم هناك, وهدم قبة قبر (( زيد بن الخطاب)) رضى الله
عنه, وكانت فى بلدة (( الجبيلة)) فسار اليها وسار معه عثمان بن معمر ومعهما نحو
ستمائة مقاتل لرد أهلها ان حالوا بينه وبين هدم القبة. فلما قربوا منها ظهر عليهم
أهل جبيلة يريدون أن يمنعوا هدمها, فلما رآهم عثمان تأهب لحربهم, فلما رأوا ذلك
كفوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها, فلما وصلوا الى القبة قال عثمان: نحن لا نتعرض
لها, فقال الشيخ: أعطونى الفأس, وهدمها بيده حتى ساواها بالأرض )).
الدعوة الوهابية ص64 دار الشروق- الطبعة الأولى
القاهرة يناير 1960 م, الطبعة الثانية – الرياض أبريل 1974 م . والكاتب ينقل أيضا
من كتاب ( عنوان المجد فى تاريخ نجد).
أقول : اذا كان
يرى صاحب الدعوة أن هدم القبة يحول بين المحبين وبين قبر زيد رضى الله عنه, فقد
أخطأ, لان قبر زيد هو قبر زيد, عليه قبة, أو خلا منها. الا أن يسوى القبر بالأرض
ويمحو أثره فلا يهتدى اليه أحد, وهذا عبث.
وأسأله كم من صالح فى غرفة قبر, أو فى العراء
كذلك, يقصده الناس؟ اذ ليست القضية تنتهى عند البناء على القبر, بل هى أشواق عبر
عنها صاحب ليلى فقال:
أ مر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار
وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبى
ولكن حب
من سكن الديارا
حتى أن بعض
أهل المحبة اذا ساقتهم الأشواق الى أرض الحبيب فعاينوها, أو نظروا الحبيب ذاته,
تضاعف الشوق بعد الاياب, كأن لم يكن أحدهم قريب عهد بذات الحبيب, أو بأرضه.
(( أخرج
الطبرانى عن عائشة رضى الله عنها قالت: جاء رجل الى النبى(ص) فقال: يارسول الله!
انك لأحب الى من نفسى, وانك لأحب الى من أهلى, وانك لأحب الى من ولدى, وانى لأكون
فى البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتى فأنظر اليك, ...)). حياة
الصحابة ج2ص308-309 . فتأمل حال هذا الصحابى والذى بلا ريب, كان ينظر
الحبيب(ص) ويجالسه, ومع ذلك ان كان فى بيته, اشتاقت روحه الى رؤى الحبيب(ص), فما
يصبر حتى يأتى فينظر اليه.
ومنهم من أستوى عنده هذا الشوق, فحاله بعد
الزيارة كحاله قبلها, وما ذاك الا لفرط المحبة, فلا تستقر الأشواق عنده الا
بملازمة الحبيب, أو السكنى بجواره.
تالله
ماشوقى لطيبة بعدما زرت
الحبيب وقبله الا سواء
جاء
فى ترجمة السيدة أنيسة بنت عدى الأنصارية, وولدها عبدالله بن سلمة: (( أنيسة بنت
عدى الأنصارية, وهى والدة عبدالله بن سلمة العجلانى المقتول بأحد, وقال: ابن منده
أنيسة بنت عدى الأنصارية استأذنت النبى فى نقل ابنها عبدالله بن سلمة البدرى حين قتل
بأحد, روى حديثها عيسى بن يونس عن سعيد بن عثمان عن جدته أنيسة, قلت وأسند حديثها
أبوبكر بن أبى عاصم وأبو زرعة الرازى وأبو على بن السكن وغيرهم من رواية عيسى بن
يونس ولفظه أنها جاءت الى النبى فقالت: يارسول الله ان عبدالله بن سلمة وكان بدريا
قتل يوم أحد فأحببت أن أنقله الى فآنس بقربه فأذن لها رسول الله فى نقله...)). الأصابة لأبن حجر ترجمة عبدالله ج4-ص 120حرف العين, ترجمة
والدته ج7- ص 520 حرف الألف.
فليس المحرك
الى زيارة رسول الله(ص), أو مشاهد الصالحين, الا ماتقدم من حب وحاجة فى التوسل بهم
الى الله, فلا تعنى عندهم-أعنى الزائرين- القباب شيئا بنيت أو تركت, وهذا الحب
المركوز فى ذواتهم ليس الى هدمه من سبيل.
فاذا رأيت منهم
عناية بقبور الصالحين بالبناء عليها,فلهم فى ذلك مفاهيم, منها الخوف عليها أن
تندرس فلا تعرف بتعاقب السنين, وان فعلوا فلهم فى ذلك سلف من أهل العلم.
وليس هذا محل الدليل على جواز بناء القباب
عند القائلين به, لأن البحث مخصص لغير ذلك, ولكن لا بأس بذكر مايظهر أن للآخر
دليله الذى يعول عليه, مما يؤكد أن فرض الرأى الواحد مع وجود آراء اخر تعسف فى
استعمال الحق ووضع للأشياء فى غير مسارها الصحيح.
جاء فى كتاب –
احياء المقبور للعلامة أحمد بن عبدالله الصديق الغمارى- قوله
: (( قال ابن حزم فى المحلى: فان بنى عليه بيت أو قائم لم يكره... وقال ابن مفلح
فى كتاب الفروع من فقه الحنابلة: وذكر صاحب المستوعب والمحرر: لا بأس بقبة وبيت
وحظيرة فى ملكه لأن الدفن فيه مع كونه كذلك مأذون فيه... وهو قول ابن القصار
وجماعة من المالكية كما حكاه الحطاب فى شرح المختصر.
قال الغمارى: وهذا
فى حق عامة الناس – أى ما سبق بيانه- وأما الأولياء والصالحون فنص جماعة على
جوازه, بل استحبابه فى حقهم تعظيما لحرمتهم وحفاظا لقبولرهم من الامتهان والاندثار
الذى يعدم معه الانتفاع بزيارتهم والتبرك بهم.
وقد أفتى
العز بن عبدالسلام بهدم القباب والبيوت والأبنية الكثيرة الواقعة فى قرافة مصر, لأنها
واقعة فى أرض موقوفة على دفن المسلمين واستثنى من ذلك قبة الامام الشافعى قال:
لأنها مبنية فى دار ابن عبدالحكم وهذا منه ذهاب الى جواز بناء القباب على مثل قبر
الامام الشافعى رضى الله عنه اذا كان ذلك فى الملك ولم يكن فى أرض الحبس.
بل أفتى الحافظ
السيوطى باستثناء قبور الأولياء والصالحين ولو كانت فى الأرض المحبسة ووافقه جماعة
ممن جاءوا بعده من فقهاء الشافعية وقد ذكر هو ذلك فى جزئه الذى سماه (( بذل
المجهود فى خزانة محمود )) فقال : (( الوجه الرابع أن من قواعد الشرع أنه يجوز أن
يستنبط من النص معنى يخصصه وذلك معلوم. فان كان هذا فى نص الشارع ففى نص الواقف
أولى فيقال ان مقصود الواقف تمام النفع وتمام الحفظ, فاذا وجد من يحتاج الى
الانتفاع بها فى تصنيف وذلك لا يمكن على الوجه الأتم فى المدرسة ووثق بتمام حفظه
وصونه جاز الاخراج له, ويستثنى من المنع ويخص عموم لفظ الواقف بهذا المعنى
المستنبط كما خصص عموم قوله تعالى: (( أو لا مستم النساء )) واستثنى منه المحارم
بالمعنى المستنبط وهو الشهوة, ولا دليل لا ستثناء المحارم من آية أو حديث سوى هذا
الاستنباط فكذلك هنا. وقد ذكر الحافظ عماد الدين بن كثير فى تاريخه أن فى بعض
السنين ببغداد منع معلمو الأطفال من تعليمهم فى المساجد الا رجلا واحدا كان موصوفا
بالخير فاستثنوه من المنع, وأنهم استفتوا الماوردى صاحب الحاوى من أءمتنا والقدورى
من أئمة الحنفية وغيرهما فأفتوا باستثنائه واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم أمر
بسد كل خوخة فى المسجد الا خوخة أبى بكر, وهذا الاستنباط دقيق لا يدركه الا الأئمة
المجتهدون كالماوردى والقدورى ونحوهما. وقد استندت الى قولهم هذا قديما حين
استفتيت فى أبنية القرافة فأفتيت بهدمها كما هو المنقول الا مشاهد الصالحين
فأستندت فى هذا الاستثناء الى ما صنعه الماوردى والقدورى.. أه
قال الغمارى :
وهذا انما هو لأجل كونها واقعة فى الأرض الموقوفة وأما ما لم يكن فيها فقوله فيه
الجواز مطلقا.
وفى حواشى
البحيرمى على شرح الخطيب على متن أبى شجاع: ولو وجدنا بناء فى أرض مسبلة ولم يعلم
اصله ترك لا حتمال أنه وقع بحق قياسا على ما قرروه فى الكنائس. نعم استثنى بعضهم
قبور الأنبياء والشهداء والصالحين ونحوهم قاله البرماوى. وعبارة الرحمانى: نعم
قبور الصالحين يجوز بناؤها ولو بقبة لاحياء الزيارة والتبرك قال الحلبى ولو فى
مسبلة وأفتى به وقال أمر به الشيخ الزيادى مع ولا يته...أه.
وفى شرح
العميرى على العمل الفاسى والعمل بالبناء على القبور جاز أيضا وقد كتب شيخ شيوخنا
سيدى عبدالقادر الفاسى: فى ذلك بما نص المراد مه ولم يزل الناس يبنون على قبور
الصالحين وأئمة الاسلام شرقا وغربا كما هو معلوم وفى ذلك تعظيم حرمات الله واجتلاب
مصلحة عباد الله لا نتفاعهم بزيارة أوليائه ودفع مفسدة المشى والحفر وغير ذلك,
والمحافظة على تعيين قبورهم وعدم اندراسها, ولو وقعت المحافظة من الامم المتقدمة
على قبور الأنبياء لم تندرس وتجهل بل اندرس أيضا كثير من قبور الأولياء والعلماء
لعدم الاهتمام بها وقلة الاعتناء بأمرهم...اه, ذكر ذلك لمن سأله عن البناء على
ضريح مولانا عبدالسلام بن مشيش نفعنا الله به وما يؤثر فى النهى عن البناء على
القبر انما ذلك حيث يكون القصد من ه المباهاة والمفاخرة.
وفى مسائل
المسناوى أنه سئل عن البناء على قبر الرجل والمراة اللذين ترجى بركتهما فى الحياة
وبعد الموت بقصد التمييز لقبره ومقامه ويكون البناء حسنا بالتزليج هل يجوز ذلك أم
لا ؟ وعلى الجواز فهل من أنفق على ذلك البناء من ماله أو صنعه بيده يثاب على ذلك
أو لا ثواب له ؟ فأجاب ان البناء على من ذكر بقصد ما ذكر جائز بل مطلوب اذا كان فى
أرض مملوكة للبانى لما ذكره بعض المحققين من شيوخ شيوخنا أنه فيه جلب مصلحة
الانتفاع بالصالحين ودفع مفسدة امتهانهم بالحفر والمشى وغير ذلك. اذ لولا البناء
لا ندرست قبورهم كما اندرست قبور الأنبياء عليهم السلام فتبطل زيارتهم وهى مطلوبة
شرعا – كما لا يخفى وقد أشار الى مطلوبيتها وما فيها من الفوائد الشيخ الامام
العارف الربانى أبو اسحاق ابراهيم التازى الوهرانى فى قصيدته التى أولها.
زيارة أرباب التقى مرهم يبرى *
ومفتاح أبواب السعادة والخير
وفى نوادر
الأصول عن فاطمة رضى الله عنها أنها كانت تأتى قبر حمزة رضى الله عنه فى كل عام
فترمه وتصلحه لئلا يندرس أثره فيخفى على زائره وفى فتاوى ابن قداح : اذا جعل على
قبر من أهل الخير علامة فهو حسن والعلامة المميزة هو البناء الخاص لاشتراك
غيره...اه .
وفى شرح
السجلماسى على العمل الفاسى : مما جرى به العمل بفاس وغيره تحلية قبور الصالحين
بالبناء عليها تعظيما, كما أفتى به الامام سيدى عبد القادر الفاسى والد الناظم ثم
ذكر فتواه السابقة, ثم قال جواز البناء على القبور منقول عن ابن القصار واذا كان
ذلك على مطلق القبور مع عدم قصد المباهاة كان البناء بقصد تعظيم من يعظم شرعا
أجوز, بل حيث كان القصد بالبناء التعظيم ينبغى أن يكون مشرفا بالبناء على البيوت
بالنقش والتزويق, لأن ذلك كله من كمال التعظيم... اه باختصار.
وفى شرح
الرسالة لجسوس ويكره البناء على القبور وقد يحرم وقد يجوز اذا كان للتمييز ويستثنى
قبور أهل العلم والصلاح فيندب لينتفع بزيارتهم. بذلك جرى العمل عند الناس شرقا
وغربا من غير نكير...اه.
وفى شرح التوبشتى على المصابيح : وقد أباح السلف
البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين يزورها الناس وليستريحوا
اليها بالجلوس فى البناء الذى على قبورهم مثل الرباطات والمساجد...اه.
وفى مصباح
الأنام وجلاء الظلام للعلامة على بن أحمد الحداد : ومن قال بكفر أهل البلد الذى
فيه القباب وانها كالصنم فهو تكفير للمتقدمين والمتأخرين من الاكابر والعلماء
والصالحين من جميع المسلمين من أحقاب وسنين مخالفا للاجماع السكوتى على الأنبياء
والصالحين عصور ودهور صالحة. قال تلميذ ابن تيمية الامام ابن مفلح الحنبلى فى
الفصول : القبة والحظيرة فى التربة يعنى على القبر ان كان فى ملكه فعل ما شاء وان
كان فى مسبلة كره للتضييق بلا فائدة ويكون استعمالا للمسبلة فيما لم توضع له...
اه. قال ابن القيم الحنبلى : ما أعلم تحت أديم السماء أعلم فى الفقه على مذهب أحمد
من ابن مفلح..زاه. وقوله فى المسبلة بلا فائدة اشارة الى أن المقبور غير عالم وولى
أما هما فيندب قصدهما للزيارة كالأنبياء عليهم السلام وينتفع الزائر بذلك من الحر
والبرد والمطر والريح والله أعلم لأن الوسائل لها حكم المقاصد )). الغمارى ص 6,7,8
أيضا نقول اذا
كان يرى - صاحب الدعوة - أن زيارة قبر زيد رضى الله عنه والتوسل به – أعنى زيدا
لأننا نؤمن بالحياة البرزخية, ولم نر أن الموت فناء محضا- الى الله فى قضاء الحاجة
شرك فذلك القول منه لا يعتد به عندنا. ولعلك تتساءل لم؟ نقول: ستجد الأجابة محررة
فى بحثنا هذا, ومع ذلك أقول ان الامام الذهبى فى كتابه سير أعلام النبلاء فى ترجمة
( معروف الكرخى) ,قال: (( وعن ابراهيم الحربى قال: ( قبر معروف الترياق المجرب)
يريد – والقائل الذهبى- اجابة دعاء المضطر عنده لأن البقاع المباركة يستجاب عندها
الدعاء, كما أن الدعاء فى السحر مرجو, ودبر المكتوبات, وفى المساجد, بل دعاء
المضطر مجاب فى أى مكان اتفق 0 اللهم انى مضطر الى العفو فاعف عنى)). ج9 ص343
فاذا كان قبر
معروف الكرخى- وهو من أولياء الأمة- الترياق المجرب, فكيف بقبر صاحب رسول الله(ص)
سيدنا زيد.
والحقيقة
أن الشرك أن تجعل لله ندا وقد خلقك, ومجيئك الى قبر معروف لا يفهم منه الا أن
معروفا وسيلة صالحة الى الله , وليس ندا لله ولا شريكا له فى الملك- ونحن لا نفرق
بين الحياة والموت لأن المكانة عند الله لا تذهب بالموت- وهذا الصلاح ناله الكرخى
بسيره على هدى رسول الله(ص). أما ان كان الشيخ يعتقد أن الوسيلة ممنوعة, لأن من
جعل بينه وبين الله وسيلة فقد أشرك, ففهمه هذا يقوده الى أن المريض مثلا اذا شرب
الدواء يريد الشفاء مشرك , لأن الشافى هو الله. نعم الشافى هو الله, ولكن الله
أمرنا باتخاذ الوسائل والأسباب لنيل المطلوب.
وقد ذكر الأمام الكوثرى فى- تكملة الرد على
نونية ابن القيم للسبكى-185(( وفى تاريخ الخطيب-1-123 بسنده الى الشافعى رضى الله
عنه أنه قال: (( انى لأتبرك بأبى حنيفة وأجى الى قبره كل يوم – يعنى زائرا- فاذا
عرضت لى حاجة صليت ركعتين وجئت الى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده فما تبعد
عنى حتى تقضى...)).
وأعجب من قول
المتقدم تنطعا, قول قائلهم فى احدى القنوات الفضائية العربية وقد سأل عن القبة
الخضراء, قبة رسول الله(ص)فقال: (( ان القبة التى فوق قبر , أو قال حجرة رسول الله
معصية, تركت مخافة الفتنة)). فاذا كانت هذه عقيدتهم فى قبة رسول الله(ص), فليقولوا
فى غيره ما شاءوا.
ولكن العقلاء
والأمة من ورائهم يتساءلون, أى معصية هذه التى جاز لها أن تعلوا رسول الله(ص) ,
وأى معصية هذه التى رضى الله لها أن تظل قبر حبيبه صلى الله عليه وسلم؟.
وهل غادر
الملك الموكل بتبليغه صلى الله عليه وسلم, سلام أمته قبره الشريف, لأن الملك
والمعصية لا يجتمعان؟
وهل خلا
القبرالشريف من الملائكة الحافين حوله لذات الشى؟
ان العقلاء
يرددون:
حفظ الاله كرامة لمحمد* آباءه
الأمجاد صونا لاسمه
تركوا السفاح فلم يصبهم* عاره من
آدم والى أبيه وأمه
أتراه سبحانه- يسألك العقلاء- حين حفظ نسل رسوله(ص)
أن يقربه سفاح, أتراه يعجزه أن يحفظ قبر نبيه(ص) أن تظله معصية؟. ورسول الله(ص)
يدعو (( اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد )) الموطأ جامع
الصلاة. والحافظ جل جلاله فى قرآنه
يقول: (( والله يعصمك من الناس )). الآية 67 المائدة
فاذا كنت
لا تتفق مع القائلين بجواز بناء القباب, فليس من العدل ان يجرك الحال الى سوء
الأدب مع رسول الله(ص). ثم من من العلماء الذين تذخر بهم الأرض أيام وضعت القبة
على قبر رسول الله أو الذين جاءوا من بعد ذلك, قال مثل مقالتك الشنيعة فى حق رسول
الله؟ أو أمر بازالة القبة الخضراء لأنها معصية؟
ثم هل يستوى
قولك هذا, مع قول صاحب رسول الله, سيدنا قباث بن أشيم, فى التحرى الدقيق لأختيار الألفاظ
اذا كان الخطاب يتعلق برسول الله؟
قالوا: (( سأل عثمان بن عفان قباث بن أشيم أخا
بنى يعمر بن ليث- أأنت أكبر أم رسول الله؟ فقال: رسول الله أكبر منى وأنا أقدم منه
فى الميلاد... )). سنن الترمذى- ميلاد النبى.
فانظر رحمك الله هل
يستويان! ورحم الله القائل:
الا انها الأيام قد صرن كلها*
عجائب حتى ليس فيها عجائب
ولنرجع الى
مانحن بصدده من تتمة ما بدأناه من كلام عبدالكريم الخطيب:
(( وقد كان لهذه الأحداث- منها هدم قبة
زيد- تأثير كبير فى امارة العينية حيث هدد كثير من جهاتها بخلع طاعة أميرها عثمان
بن معمر. وانتهى الأمر بأن تخلى الأمير عثمان عن نصرة صاحب الدعوة وطلب اليه أن
ينجو بنفسه قبل الفتك به )).
يقول الكاتب: ((
وهنا يبدأ هجرة جديدة فى سبيل الله.. فيمم وجهه شطر الدرعية سنة 1158 هجرية
وأميرها (( محمد بن سعود)).. فلما كان أول لقاء بينهما قال الأمير لصاحب الدعوة:
أبشر بالعز والتمكين, وهذه كلمة (( لا اله الا الله )) من تمسك بها وعمل ونصرها
ملك بها البلاد والعباد, وهى كلمة التوحيد وأول مادعت اليه الرسل من أولهم الى
آخرهم.
وقد عاهد
محمد بن سعود صاحب الدعوة على النصرة والجهاد قائلا له: (( ياشيخ: ان هذا الذى
تدعو اليه هو دين الله ورسوله الذى لا شك فيه, وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به,
والجهاد لمن خالف التوحيد..)).
يقول: (( بدأ
الشيخ, والأمير محمد بن سعود يعدان العدة للخروج بالدعوة الى خارج حدود الدرعية,
ثم نجد, ثم الجزيرة العربية.. سائرين على الطريق الذى سارت عليه الدعوة الاسلامية
فى عهد الرسول الكريم. جيوش تعد لرد المهاجمين, ودفع القائمين فى وجه الدعوة, وكتب
ورسائل الى الأمراء والحكام بالدعوة الجديدة والدخول فيها. وقد بدأت المعارك
والغزوات بين أمراء نجد وما حولها ثم امتدت الى الحجاز, وشملت الجزيرة العربية
كلها. (( وكان صاحب الدعوة هو الذى يجهز الجيوش, ويبعث السرايا ويكاتب أهل البلدان
ويكاتبونه, والوفود والضيوف من عنده, والداخل من عنده)). واستمر صاحب الدعوة قائما
على رعايتها وتوجيهها والمنافحة عنها بالرأى والسيف, حتى خضعت له واستجابت لدعوته
معظم الجهات المتاخمة لنجد, ولم يمت الا بعد أن رأى بعينيه ثمرات طيبة لجهاده. رأى
انصارا أشداء حولها, يؤمنون بها ويحملون
مشعلها..)). الدعوة الوهابية ص 65
يقول: (( وسارت
الدعوة فى طريقها بعد وفاة صاحبها, فكانت الغزوات تخرج من نجد وتعود ظافرة محملة
بالغنائم من متاع وسلاح, حتى أصبح معظم الجزيرة العربية فى قبضة يديها.. ونشير هنا
الى أمثلة من هذه الغزوات كما يرويها عثمان بن بشر النجدى, صاحب كتاب(( عنوان
المجد فى تاريخ نجد)), يقول فى صفحة121: (( فى سنة 1216ه سار سعود بن عبدالعزيز
بالجيوش المنصورة والخيل والعتاق المشهورة من جميع حاضر نجد وباديها والجنوب
والحجاز وتهامة وغير ذلك وقصد أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين فحشد عليها
المسلمون( يقصد أتباع محمد بن عبدالوهاب), وتسوروا جدرانها ودخلوها عنوة, وقتلوا
غالب أهلها فى الأسواق والبيوت, وهدموا القبة الموضوعة على قبر الحسين, وأخذوا ما
فى القبة وما حولها وأخذوا النصيبة التى وضعوها على القبر, كانت مرصعة بالزمرد
والياقوت والجواهر, وأخذوا جميع ما وجدوا فى البلد من الأموال, والسلاح, واللباس
والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة, وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر, وقتل منها
نحو ألفى رجل)). الدعوة الوهابية ص67
يقول ((وهكذا امتدت الدعوة الى خارج الجزيرة,
ولم يبق غير الحرمين الشريفين, ولكن لم يمض وقت طويل, حتى دخل الحرمان الشريفان
فيما دخل فيه الناس)). الدعوة الوهابية ص 68
أقول
ماكنت أرغب فى أن
أطيل النفس فى هذا السرد التاريخى المحزن, الذى اذا أمعن العاقل فيه النظر لأدرك
أن الوهابية –يحسبون أنفسهم- هم المسلمون, وسائر من يقول ( لا اله الا الله محمد
رسول الله) هم المشركون الذين فاق شركهم الشرك الذى كان على عهد رسول الله. ولكنى فقط بهذا النفس أحببت أن أصل الحاضر
بالماضى, لعل الوهابية يتذكرون سلفهم.
ومن سلفهم,
الذين صنعوا كصنيعهم, قوم جاء ذكرهم فى حديث رسول الله(ص) – ذكر ذلك البخارى فى
مظانه- قال رسول الله(ص) : (( يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان- أى صغارها-
سفهاء الأحلام- أى ضعفاء العقول- يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما
يمرق السهم من الرمية, لا يجاوز ايمانهم حناجرهم...)). وفى البخارى أيضا (( يقتلون
أهل الاسلام ويدعون أهل الأوثان )) .
أما قتلهم أهل
الاسلام فقد فعلوا ذلك على عهد أمير المؤمنين سيدنا على رضى الله عنه, جاء فى فتح
البارى, شرح الحديث أعلاه (( وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن حميد بن هلال قال:
حدثنا رجل من عبد القيس قال: لحقت بأهل النهر- أيام قاتل على الخوارج- فانى مع
طائفة منهم أسير اذ أتينا على قرية بيننا نهر, فخرج رجل من القرية مروعا فقالوا له
لا روع عليك, وقطعوا اليه النهر فقالوا أنت ابن خباب صاحب البنى قال: نعم, قالوا:
فحدثنا عن أبيك فحدثهم بحديث يكون فتنة فان استطعت أن تكون عبدالله المقتول فكن,
قال فقدموه فضربوا عنقه, ثم دعوا سريته وهى حبلى- حامل- فبقروا عما فى بطنها...
ولابن أبى شيبة... وكانوا مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة فوضعها فى فيه
فقالوا له تمرة معاهد فيم استحللتها فقال لهم عبدالله بن خباب: أنا أعظم حرمة من
هذه التمرة, فأخذوه فذبحوه...)).
قال ابن حجر فى
الفتح باب استتابة المرتدين(( قال القرطبى فى ( المفهم ) وفى الحديث علم من أعلام
النبوة حيث أخبر بما وقع قبل أن يقع, وذلك ان الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم
استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذمة فقالوا نفى لهم بعهدهم, وتركوا قتال المشركين
واشتغلوا بقتال المسلمين, وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم
بنور العلم ولم يتمسكوا بحبل وثيق من العلم, وكفى أن رأسهم رد على رسول الله أمره
ونسبه الى الجور نسأل الله السلامة)).
قال ابن حجر
قال ابن هبيرة: (( وفيه- اى الحديث أعلاه- الزجر عن الأخذ بظواهر جميع الآيات القابلة
للتأويل التى يفضى القول بظواهرها الى مخالفة اجماع السلف, وفيه التحذير من الغلو
فى الديانة والتنطع فى العبادة بالحمل على النفس فيما لم يأذن فيه الشرع, وقد وصف
الشارع الشريعة بأنها سهلة سمحة, وانما ندب الى الشدة على الكفار والى الرأفة
بالمؤمنين, فعكس ذلك الخوارج... )). فهل
يرتاب العقلاء فى أن الوهابية بعد هذا الايضاح, هم شر خلف لشر سلف. فان كان
الخوارج قتلوا أهل الاسلام بما يحتمل التاويل, والرأى الآخر, فقد صنع الوهابية ذات
الشى!. وستجد فى بحثنا هذا بحول الله وقوته ما يزيدك يقينا, بأن الوهابيين سدنة
الغلو والتطرف.
ولعلك تتساءل لم أصاب الوهابية من دعوتهم آخر الشر ولم يصبهم
أوله؟
أجيب عن هذا بدءا
بأن التحالف بين ابن عبدالوهاب وأمير الدريعة محمد بن سعود, اتاح للفكر الوهابى,
الغطاء المسلح لتمرير فكره, وقمع الآخر, مما أدى الى خلافات وصراعات جمة حينها.
ولم يكن بعد أن
صفا الجو لهم, من شغل الا تمكين الفكر داخليا , وايجاد أكبر مساحة له فى أرض
الاسلام. وظهر للعالمين ما واكب هذا السعى من غلظة, ومجانبة لآداب البلاغ.
فلما ظهر لهم
أن الدعوة ماضية, وأن سانحة للعمل المسلح, تجلت فى الأفق لهم – حركة جهيمان مثالا انظر ترجمته مولده وفكره وشيوخه- لم يتوانوا فى اكتسابها.
ولما كان ذلك
كذلك فقد أدى الحراك المسلح الخارجى- أى خارج السعودية- والذى كان للشباب السعودى
الوهابى دورا فيه- كذلك الى أن يشدهم الى ماضى النشأة,فارتدوا بفكرهم الى الداخل
وحشدوا مناصريهم ضد الوطن فعبثوا به. وهم
فى ذلك لا تنقصهم الحيلة للعبث بأرض الحرمين حتى ولو ترآءت من ثقب ابرة.
واذا تجولت
بفكرك باحثا فى الحركات المسلحة المعاصرة, والتى تتسمى بالسلفية, والتى لم يتجاوز
قتلها وتدميرها المسلمين, تجدها لا تخلو
أدبياتها من الفكر الوهابى- الجزائر القديم الجديد, العراق مثالاحاضرا.
أما المقالة
التى يلوكها دعاة الوهابية والتى تقول لو كانت الوهابية فرخت التطرف, فلم لم يصبح
المجتمع السعودى كله أرهابيا؟.
نجيبهم بأن
بعضا من الشباب السعودى عصم بالأسرة التى لا تدين للوهابية بالطاعة , فأصبح السعودى
المصان- بما يتناول من فقه مغاير لا يتجاوز مثلا المنزل, مصانا من أن ينغمس فى
أتون الوهابية,فأضحى عالما بحقيقتها, وبمضلات الفتن فيها, وقس على الأسرة ماشئت من
موانع عصمت أصحابها من وراء حجاب. فلا يتعلل الوهابية بحجج واهية.
وحيث بان لك أن الدعوة الوهابية أتسمت بالعنف فى
كل أطوارها قديما, وأن النار التى أوقدوها ففتت كيان الامة-ولاتزال- ارتدت اليهم
بهم. نرجع بك الى الحاضر لتعاين فيه أن
ذات الفكر الذى قتل, وخرب,وهدم بالأمس, يحمله اليوم أناس متطرفون هم نسخة مكررة من
حملة الأمس.
نماذج من التطرف فى الفهم
:
وحتى لا نتحدث حديثا تنقصه الشواهد, أضع بين
يديك نماذج من التطرف في الفهم, سطرته أقلام هؤلاء الوهابية.
1 - الحتفاء بالمولد النبوى الشريف
سؤال: هل يجوز أكل اللحم الذي يذبح لمولد النبي وغيره من
الموالد؟
جواب: ما ذبح في مولد نبي أو ولى تعظيما له فهو مما ذبح لغير
الله وذلك شرك , فلا يجوز الاكل منه , وقد ثبت ان النبى قال : ( لعن الله من ذبح
لغير الله ). من اللجنة الدائمة للإفتاء .
فانظر رحمك الله
إلى هذا التعنت في الفهم, والى سوء النية في الفتوى!
فإذا سألت
هذا المفتى من هذا الذابح من أمة رسول الله(ص) , الذي تحدثه نفسه بان يتوجه
بذبيحته لغير الله , أو يسمى عند ذبحها غير الله؟
ما استطاع جوابا. لأنه يعلم انه مامن مسلم إلا ويحفظ عن رسول الله قوله: (
انما الاعمال بالنيات, وانما لكل امر
مانوى). البخارى- كتاب بدء الوحى وحتى وان لم يكن
يحفظ هذا الحديث, ولم يسمع به,- وهذا مستبعد- فانه مركوز فى جبلته أن هنالك قضايا
تنفر منها النفس المسلمة, فلا تحوم حولها, والذبح لغير الله منها, وحتى وان لم
يباشر لذلك حكما, ولم يعرفه, لانه عنده
يصادم الفطرة, وما درج المسلمون عليه. فان سالت من اين لى هذا؟ أقول من أفعال المسلمين, فى عيد الأضحى, يسمعهم
هذا المتهم زورا, يقولون عند الذبح( بسم الله, والله أكبر) فيتعلق هذا بالضرورة فى
قلبه, ويعلم أنه لا يقال غيره فى مواطن الذبح, ولا تنصرف طبائع الذابحين الا اليه,
فيعمل به, ونحن نعلم أن بعضا من الذين يتولون الذبح, لأطعام المسلمين من اللحوم,
يكثر فيهم الجهل بأحكام الدين ولكن مع ذلك, عادة, وسماعا من غيرهم, اذا ذبحوا
الذبيحة, قالوا ( بسم الله , والله أكبر ), وما سمعنا أن أحدا من المسلمين, ذكر
عند الذبح غير اسم الله, فهل يا ترى وجد الوهابية مسلما يذبح لغير الله؟ وهب أنهم
وجدوه- فى غابة, أو جزيرة نائية لا مرشد فيها- فهل من الأنصاف أن يعمم صنيعه على
الآخرين؟ وهل غاب عن سيدنا الشيخ قوله(ص) لاسامة: ( هلا شققت عن قلبه )؟ وهل فهم
حضرة المفتى, قيمة هذا التحذير النبوى؟ وهل صغت اذنه الى قول أسامة بعد (حتى تمنيت
أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) لينتهى مفتينا عما انتهى عنه صاحب رسول الله(ص),
أم أبى المفتى الا أن ينصر مذهبه . جاء فى فتح البارى- كتاب الديات- باب قوله
تعالى ومن أحياها(( وفى رواية الأعمش أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ”
قال النووي الفاعل في قوله ” أقالها ” هو القلب، ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل
بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى ما فيه، فأنكر عليه ترك
العمل بما ظهر من اللسان فقال ” أفلا شققت عن قلبه ” لتنظر هل كانت فيه حين قالها
واعتقدها أو لا،والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان)).
. وهل نترك
اقوال اهل العلم والتى تنادى بجواز الاطعام والاحتفال , واظهار السرور والفرح بيوم
مولد رسول الله , الى اقوال غالية لاتستند الى دليل؟
قال الامام
السيوطى : ( الحمد لله وسلاما على عباده الذين اصطفى, وبعد. فقد وقع السؤال عن عمل
المولد النبوى فى شهر ربيع الأول.
ماحكمه من
حيث الشرع؟
هل هو
محمود أو مذموم؟
وهل يثاب
فاعله, أم لا؟
والجواب عندى : ان
أصل عمل المولد الذى هو اجتماع الناس, وقراءة ماتيسر من القرآن, ورواية الأخبار
الواردة فى مبدأ امر النبى , وماوقع فى مولده من الآيات,((( ثم يمد لهم سماطا
يأكلونه))), وينصرفون من غير زيادة على ذلك من البدع الحسنة التى يثاب عليها
صاحبها, لما فيه من تعظيم قدر النبى, واظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.
وأول من
أحدث فعل ذلك ( صاحب أربل) الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين على بن
بكتكين, أحد الملوك الأمجاد, والكبراء الأجواد, وكان له آثار حسنة, وهو الذى عمر
الجامع المظفرى بسفح قاسيون.
قال ابن كثير فى تاريخه, كان يعمل المولد الشريف
فى ربيع الأول, ويحتفل به احتفالا هائلا, وكان شهما شجاعا بطلا, عاقلا, عالما رحمه
الله وأكرم مثواه.
قال : وقد صنف
له الشيخ أبو الخطاب ابن دحية مجلدا فى المولد النبوى سماه (( التنوير فى مولد
البشير النذير )). فأجازه على ذلك بالف دينار. وقد طالت مدته فى الملك الى أن مات
وهو محاصر الفرنج بمدينة عكا, عام ثلاثين وستمائة, محمود السيرة والسريرة.
وقال سبط ابن
الجوزى فى (( مرآة الزمان)) : حكى أن بعض من حضر سماط المظفر فى بعض الموالد أنه
عد فى ذلك السماط : خمسة آلاف رأس غنم مشوى, وعشر آلاف دجاجة...
جاء فى لسان
العرب: ( واصل السميط أن ينزع صوف الشاة المذبوحة بالماء الحار, وأنما يفعل بها
ذلك فى الغالب لتشوى) . فماذا تقول اللجنة الدائمة للافتاء بالسعودية فى هذا
السماط الذى تأكله العلماء والصوفية والعامة فى تلك الايام الزاهرة, وقد رضى به
أهل العلم ونقلوه لنا؟ ولنا اصدارة- مطبقة- مختصرة توزع مجانا فى أيام المولد النبوى ( شن الغارة على من قال أن الاحتفال بمولد رسول
الله ضلالة ).
2- ضرب العقيدة
يقول
المتنطع صالح بن فوزان فى كتابه ( عقيدة التوحيد ) ص 14 : (( وسبل التوقى من هذا
الانحراف تتلخص فيما يلى : - فى 4 نقاط
( 3 ) أن تقرر
دراسة الكتب السلفية الصافية, ويبتعد عن كتب الفرق المنحرفة, كالصوفية والمبتدعة, والجهمية
والمعتزلة والأشاعرة, والماتوريدية وغيرهم الا من باب معرفتها لدر ما فيها من
الباطل والتحذير منها ).
أقول: والأشاعرة
هم السواد الاعظم من أمة رسول الله(ص), لا يجادل فى هذا عاقل, فانظر الى هذا
المهووس كيف اخرجهم من دائرة الحق الى متاهات الضلال.
قا ل صاحب
المفاهيم: (( الاشاعرة هم أئمة أعلام الهدى من علماء المسلمين.. الذين ملأ علمهم
مشارق الأرض ومغاربها وأطبق الناس على فضلهم وعلمهم... انهم طوائف المحدثين
والفقهاء والمفسرين... واذا لم يكن الامام النووى والعسقلانى والقرطبى والباقلانى
والفخر الرازى والهيتمى وزكريا الأنصارى – وكلهم أشاعرة – وغيرهم من جهابذة
العلماء, وفطاحل النبغاء اذا لم يكونوا من أهل السنة والجماعة فمن هم أهل السنة
اذا؟ )).
يقول ابن عاشر فى منظومته :
( وبعد) فالعون
من الله المجيد * فى نظم أبيات للأمى تفيد
فى
عقد الأشعرى وفقه مالك * وفى طريقة الجنيد
السالك
قال الشارح: ((
أخبر أن نظمه هذا جمع مهمات العلوم الثلاثة وهى: العقائد والفقه والتصوف المتعلقة
بأقسام الدين الثلاثة وهى: الايمان, والاسلام , والاحسان)). شرح ابن عاشر محمد المبارك المراكشى المالكى.
ثم اعلم أن السواد الأعظم من أمة سيدنا محمد(ص) متوافرون على عقيدة
الأشعرى, وفقه الأئمة الأربعة, ونهج الجنيد فى التربية وتهذيب النفوس, وكلهم من
رسول الله ملتمس غرفا من البحر أو رشا من الديم.
فان سألت من
هو ابن عاشر , فانظر فى تعاريف طباعة المصاحف الشريفة, تجدهم يقولون- الا فى المصاحف
المطبوعة فى السعودية- : (( وعلى الجملة كل حرف من حروف هذا المصحف موافق لنظيره
فى مصحف من المصاحف الستة السابق ذكرها- مصاحف سيدنا عثمان رضى الله عنه- والعمدة
فى بيان كل ذلك على ماحققه الاستاذ محمد بن محمد الشريشى المشهور بالخراز فى
منظومته ( مورد الظمآن ) وماقرره شارحها المحقق الشيخ عبدالواحد بن عاشر الأنصارى
الأندلسى)). أقول: وليس مع هذا التعريف مزيد.
فاذا عرفت ذلك,
فأعجب من توزيع مثل هذا السخف – كتبا ونشرات – على المواطنين, بلا مقابل- يهدى ولا
يباع- وان وجد المقابل, فهو الانحراف
العقدى المفضى الى التشكيك فى مسلمات الأمة, والذى يتبعه- بالضرورة- هياج فكرى
يقضى على الأمن والاستقرار.
((
وفى احدى الأصقاع النائية, حيث تدافع أمة من المسلمين الصادقين فى اسلامهم عن
وجودهم الاسلامى, وعن أوطانهم وأراضيهم المغتصبة, تصوب اليهم من الجماعات السلفية
سهام الاتهام بالشرك والابتداع, لأنهم قبوريون توسليون, ثم تتبعها الفتاوى المؤكدة
بحرمة اغاثتهم بأى دعم معنوى أو عون مادى! ويقف أحد علماء تلك الأمة المنكوبة
المجاهدة, وينادى فى أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات: ياعجبا لاخوة يرموننا بالشرك,
مع أننا نقف بين يدى الله كل يوم خمس مرات, نقول : ( اياك نعبد واياك نستعين)!...
ولكن النداء يضيع ويتبدد فى الجهات, دون أى متدبر أو مجيب!)). السلفية للبوطى ص 245
حدثنى أحد الأصدقاء, أن وهابيا طلب منه أن يجد له محميا – لأمر ما – قال:
فلما وجدته له أخبرته بذلك فسألنى عن عقيدته., قال: فعجبت من أمره كيف يسألنى
عقيدته والرجل بلا ريب مسلم, يشهد أن لا اله الا الله ويشهد أن محمدا رسول الله,
ولا يعلم من حاله الا هذا.
أقول: ونحن لا نجد سببا لتحليل هذا الشعور العجيب من هذا الوهابى نحو المسلم الآخر, لأن هذا المسئول عنه-أعنى
المحامى- من اسمه واسم أسرته ندرك بأنه من أمة سيدنا محمد(ص) حتى يتضح لنا باطن
أمره, وليس الى ذلك من سبيل الا بالجلوس اليه, والسماع منه.
ان الحكم على
الناس باطلاقات عشوائية من هذا الوهابى وامثاله بدعة منكرة, لأنها تعتمد الظنون,
ولا تراعى الدليل. ولسان حالهم ومقالهم
وهم ينقبون فى قلوب المسلمين- وما هم بقادرين- يتسائلون هل هذه الأمة هى أمة محمد بن عبدالله , أم أمة
الشيطان.
صليت الصبح فى مشفى أمدرمان التعليمى, فقدم
للامامة وهابيا – وهذه الرغبة بامامة الناس فى الصلاة راسخة فيهم لا لشى الا لأن
الآخر من هيئته التى تباين- حال الوهابية- الجلباب القصير والساعة على الذراع اليمنى, متهم
فى عقيدته, مع شعورهم بالأنا اذ هم الفرقة الناجية - فلما
فرغ من قرأة السورة بعد الفاتحة للركعة الثانية ركع ولم يقرأ القنوت- قاصدا,
متعمدا- (( ولم يفعل بعد الرفع من الركوع )) , فلما قضيت الصلاة, قلت ان السوادنيين
مذهبهم مالكى, فاذا أم أحدنا الناس راع هذه النسبة, فان ترك القنوت فى صلاة الصبح
خلاف الأولى, اذ القنوت فى مذهب مالك فضيلة مدعو اليها. ثم توجهت الى المصلين
متسائلا اليس ذلك صحيحا؟ قالوا بلى.
فاذا
بالوهابى ياخذ مكبر الصوت, قائلا ان النبى(ص) كان يقنت فى النوازل... الى آخر
كلامه الذى لم أحب سماعه, ذلك لأن الخلاف معه – أعنى الوهابى- ليس فيما يقول من
القنوت فى النوازل, ولكن فى تركه – عمدا – العمل بمذهب من يأمهم, كأن المذهب لا يعنى
له شيئا, ويريد بصنيعه هذا أن يعلم الناس صحيح الدين, ومضيت الى سبيلى مخلفا
جاهلا, قد نصب نفسه مجتهدا يقارع مالكا وأصحابه الحجة.
3- التوسل
ذكر صاحب كتيب – اركب معنا – فيه ارقاما لاضرحة
الاولياء فى العالم الاسلامى , وسماها, ثم
قال : ( وضريح السيد البدوى.. له مواسم فى السنة أشبه بالحج الاكبر.. يقصده الناس
من خارج البلاد وداخلها من السنة والشيعة .. ) , ( وفى سوريا ضريح لمحى الدين بن
عربى صاحب (( فصوص الحكم )) وهو ضال فاجر ) . ( وفى مصر
أضرحة للاولياء التى تنتشر فى مدن مصر وقراها ستة آلاف ضريح .. وهى مراكز
لاقامة الموالد .. بل تعتبر القرية التى تخلو من أضرحة منزوعة البركة عندهم .. ) .
قال : ( انظر
كيف تلاعب الشيطان بعقول الناس حتى صرفهم عن عبادة رب الارض والسموات الى تعظيم
الاموات .. بل تعظيم التراب والرفات ) .
قال : ( أما
زيارة القبور لدعاء اهلها والاستغاثة بهم أو الذبح لهم أو التبرك بهم أو طلب
الحاجات منهم والنذر لهم. فهذا شرك أكبر ولا فرق بين كون المدعو المقبور نبيا أو
وليا أو صالحا فكل هؤلاء بشر لا يملكون ضرا ولا نفعا ... ويدخل فى ذلك مايفعله
الجهال عند قبر النبى من دعائه والاستغاثة به ... ) ( ومن العجب ان يذهب مسلم الى
المقبورين وهو يعلم انهم جثث هامدة ) محمد بن عبدالرحمن
العريفى- مختصر من
صفحات متعددة – وانبهك الى ان المؤلف لم يستثن النبى من الجثث الهامدة . و
كذلك ذهب ابن عثيمين الى مثل هذا التوصيف فقال: ( ومن العجب ان يذهب هؤلاء الى
هؤلاء المقبورين الذين يعلمون انهم جثث هامدة لا يستطيعون ان يتخلصوا مما هم فيه )
فتاوى ابن عثيمين 1\ 157-160
أقول ان هذا
الكلام مع مافيه من شطط فى القول , فيه تجن على الامة, ورمى لها بما لم تعتقده,
ولم تتفوه به . ومن المعلوم حقا ان الغالب على امة (( لا اله الا الله محمد رسول
الله )) حب الصالحين احياء وزيارتهم بعد الوفاة , وقد اخذ الخلف – ابدا – عن السلف
هذا من غير نكير, الا ان اهل العلم وضعوا آدابا يجب على الزائر ان يتحلى بها عند
الزيارة, ولم نجدهم حذروه من الشرك حين توسله برسول الله أو باحد من الصالحين ,
لانهم علموه ان النافع والضار هو الله تعالى وحده, وان المتوسل به انما يتوسل به
لمكانته عند الله .
أقول ونحن
لا يهمنا شى من أقوال الكاتب أو تفريعاته,
او تهويلاته- ألا تراه شبه زيارة السيد البدوى بالحج الأكبر, وأدنى
المسلمين معرفة لا يفوته أن الحج الأكبر الى مكة, وأنما القبور تزار, وهذا خلط منه
للمفاهيم - لا ننا لسنا تيميين أو
وهابيين نظن ان فى الامة عبادا لغير الله – ولكن الذى يهمنا شى واحد مفاده .
هل كل من توسل
أو توجه لله برسول الله أو باحد من الاولياء يكون من جملة المشركين ؟
هذا ماسنجيبك عنه
قريبا, وقد مر بك بعضه من كلام الشيخ الدجوى. فقط نمضى مع هؤلاء المتنطعين لتتضح
لك معالم التطرف واللا مبالاة فى تقريرهم للمسائل والزامهم للخصم .
فنقول: سئل الشيخ
ابن عثيمين عن حكم التوسل بالنبى.
الفتوى: التوسل
بالنبى أقسام:
أولا : ان يتوسل بالايمان به, فهذا التوسل صحيح مثل ان يقول
: اللهم انى آمنت بك وبرسولك فاغفر لى وهذا لا باس به ...
ثانيا: ان يتوسل بدعائه أى بان يدعو للمشفوع له, وهذا ايضا
جائز, وثابت, لكنه لا يمكن ان يكون الا فلى حياة الرسول ... ثالثا: أن يتوسل بجاه
الرسول سواء فى حياة الرسول أو بعد مماته, فهذا توسل بدعى لا يجوز , وذلك لان جاه
الرسول لا ينتفع به الا الرسول. (( فتامل سوء الخطاب )). وعلى هذا فلا يجوز
للانسان أن يقول : اللهم انى اسالك بجاه نبيك أن تغفر لى , أو ترزقنى الشى
الفلانى...). فتاوى ابن عثيمين 1\89.
ان هذه الفتوى
ومثيلاتها , شجعت كثيرا من أتباع هذا المذهب على توزيع الشرك والتبديع على
مخالفيهم من غير وازع من دين , ولا التفات الى حجج الآخرين حتى صار كل من يقف عند
قبر رسول الله , متهما فى دينه أو مشكوكا فى استقامته. وربما استنطقوه مالم ينطق به , حتى اذا همهم بكلمات , نظروا
اليه شزرا , قائلين له لا تقل شركا لا تقل شركا , وقد ذكر الشيخ الحبيب على زين
العابدين الجفرى فى لقاء معه فى قناة العربية, انه حدث معه وهو فى المواجهة مايشبه
هذا .
فاذا كان
هذا حال علمائهم فكيف الحال مع سفهائهم؟ الم يقل من شرب من نبعهم : ( الرسول مات
وشبع موت ) الم يقل قائلهم – وقد سمعته – والمحبون مجتمعون يقراون اوصاف رسول الله
التى سطرها يراع الامام البرزنجى رحمه الله, يقول : ( خليتو لى الله شنو ) . وقد
حدثنى شاب مال اليهم ثم ادركته العناية, ان وهابيا قال له: ( اديتو الرسول اكتر من
حقو ). فكانت سببا فى نجاته منهم.
هذا الأدب
الرفيع – أستغفر الله – بل هذا الخلق الفاسد نمى فى هذه الجماعة الضالة نتيجة
لخوفهم الكاذب ان يساوى المحبون بين الله وبين رسوله, وهيهات, ألم يقل البوصيرى
وهو شاعر المحبين لرسول الله(ص).
دع ماادعته النصارى
فى نبيهم
واحكم بما شئت مدحا فيه وأحتكم ؟
الم يقل النصارى
ان عيسى هو الله, هو ابن الله , هو ثالث ثلاثة وهذا شرك؟
ألم يفقه المحبون
بيت البصيرى فيجتنبوا الشرك أو مايفضى اليه؟ بلى فقهوا.
اما
سمع المتنطعون سيدنا ابا بكر وهو على فراش الموت , يقول لعائشة مصححا, , لما قالت
تخاطبه:( وابيض يستسقى الغمام بوجهه *ربيع اليتامى عصمة للأرامل), قال ذاك والله رسول
الله(ص). والرواية هذه فى مسند أبى بكر الصديق, من مسند
الأمام أحمد.
وهذا
سيدنا حسان بن ثابت يقول فى مدح رسول الله(ص):
وأحسن منك لم تر قط عينى
وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرا من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
قال الذهبى فى سير أعلام النبلاء فى ترجمة عبيدة بن عمر: (( قال أبو أحمد الحاكم كنية عبيدة أبو مسلم وأبو
عمرو وروى هشام بن حسان عن محمد عن عبيدة
قال أختلف الناس في الأشربة فمالي شراب منذ ثلاثين سنة إلا العسل واللبن والماء
قال محمد وقلت لعبيدة إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من قبل
أنس بن مالك فقال لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر
الأرض قلت – والقائل الذهبى - هذا القول
من عبيدة هو معيار كمال الحب وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس
ومثل هذا يقوله هذا الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة فما الذي
نقوله نحن في وقتنا لو وجدنا بعض شعره بإسناد ثابت أو شسع نعل كان له أو قلامة ظفر
أو شقفة من إناء شرب فيه فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل شيء من ذلك عنده أكنت
تعده مبذرا أو سفيها كلا فابذل ما لك في زورة مسجده الذي بنى فيه بيده والسلام
عليه عند حجرته في بلده والتذ بالنظر إلى أحده وأحبه فقد كان نبيك صلى الله عليه
وسلم يحبه وتملأ بالحلول في روضته ومقعده فلن تكون مؤمنا حتى يكون هذا السيد أحب
إليك من نفسك وولدك وأموالك والناس كلهم وقبل حجرا مكرما نزل من الجنة وضع فمك
لاثما مكانا قبله سيد البشر بيقين فهنأك الله بما أعطاك فما فوق ذلك مفخر ولو
ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحجر ثم قبل محجنه لحق
لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل والتبجيل ونحن ندري بالضرورة أن تقبيل الحجر
أرفع وأفضل من تقبيل محجنه ونعله, وقد كان ثابت البنانى اذا راى انس بن مالك أخذ
يده وقبلها ويقول : يد مست يد رسول الله , فنقول- والقائل الذهبى- نحن اذا فاتنا
ذلك حجر معظم بمثابة يمين الله فى الأرض مسته شفتا نبينا لا ثما له. فاذا فاتك
الحج ولقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه وقل فم مس بالتقبيل حجرا قبله خليلى...
)). ج 4 \ ص 42 – 43 .
اذا
ماكل وصف مشعر بالحب لرسول الله يخشى على قائله من الشرك, والا لكان المادحون
لرسول الله, سلفا وخلفا – وما أكثرهم –خارج دائرة الاسلام.
ان الوهابية من كثرة ماتوهموه خوفا على
التوحيد, أفضى بهم الحال الى التجنى على
سيدنا رسول الله(ص) . قال صاحب كتاب- الزيارة النبوية بين الشرعية والبدعية -: (
ثم انه ظهر فى موسم الحج هذا العام ( 1419) كتاب أساء الى المسلمين وكدر عليهم
صفوهم فى زيارة رسول الله(ص) , فكان أكبر ايذاء لشعورهم وهم حجاج زوار قاصدون وجه
الله سبحانه وتعالى, اذ يقول المتعدى: ان زيارة رسول الله بعد موته مفسدة راجحة لا
خير فيها, فازعجنا هذا الافتراء والتعدى وسوء الادب على مقام رسول الله, لذلك
احببت ان اشارك بهذه الرسالة فى الدفاع عن مقام رسول الله والذب عنه, وهو أقل
مايقدمه الحبيب لحبيبه والمؤمن لنبيه... ) .
أقول لهذا
المتنطع: لم رتبت الفساد على زيارة قبر رسول الله دون سائر القبور؟ ولم لم تكتف
بقولك مفسدة- فأنها توصلك الى المطلوب- فأردفتها بقولك راجحة؟
أجيبك: لجفاء فيك لحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول: لهذا
المعتوه من من أهل العلم, هذا الذى سبقك الى القول بأن زيارة رسول الله بعد موته
مفسدة راجحة لا خير فيها؟ أجيبه لا أحد. وهذا الحافظ ابن حجر فى شرح البخارى يحكى
الاجماع على مشروعية الزيارة, فيقول: (( .. وان مشروعيتها محل اجماع بلا نزاع
والله الهادى الى الصواب)). فتح البارى حديث شد الرحال.
ان
هؤلاء الوهابية, اصطبغت أقوالهم بالحكم المتعجل, من غير تحليل, ولا روية. شاهدت
أحدهم وهو يخطب فى جمع من المتنطعين, وهو
يناقش ( ساكن بغداد فى كل بلد سوالوا أولاد). فقال:( عليكم الله الرسول سكن بغداد,
عليكم الله الرسول فى كل بلد سوالوا أولاد). ثم مضى يحارب فى غير معركة! نعم فى
غير معركة لأن النص لا يتناول رسول الله, ولا يشير اليه. انما مراد الشاعر هو شيخ
الطريقة عبد القادر الجيلانى, فهو الذى سكن بغداد, وهو بما نشر من علم وطريقة
أخذها عنه وعن تلامذته ملايين البشر ( سوالوا فى كل بلد أولاد).
أما
الجواب الذى وعدناك به سابقا والذى يتعلق بالتوسل , فنقول : قال الامام الشوكانى
فى رسالته ( الدر النضيد فى اخلاص كلمة التوحيد ). أما التوسل الى الله سبحانه
وتعالى باحد من خلقه فى مطلب يطلب العبد من ربه فقد قال الشيخ عزالدين بن
عبدالسلام : انه لا يجوز التوسل الى الله تعالى الا بالنبى ان صح الحديث فيه :
ولعله يشير الى الحديث الذى اخرجه النسائى فى سننه والترمذى وصححه ابن ماجه وغيرهم
أن أعمى أتى النبى فذكر الحديث, قال: وللناس فلى معنى هذا قولان: أحدهما أن التوسل
هو الذى ذكره عمر بن الخطاب لما قال : كنا اذا أجدبنا نتوسل بنبينا اليك فتسقينا,
وانا نتوسل اليك بعم نبينا هو فى صحيح البخارى وغيره, فقد ذكر عمر أنهم كانوا
يتوسلون بالنبى فى حياته فى الاستسقاء ثم توسل بعمه العباس بعد موته وتوسلهم هو
استسقاؤهم بحيث يدعو ويدعون معه فيكون هو وسيلتهم الى الله تعالى والنبى كان فى
مثل هذا شافعا وداعيا لهم.
والقول
الثانى: ان التوسل به يكون فى حياته وبعد موته وفى حضرته ومغيبه, ولا يخفاك أنه قد
ثبت التوسل به فى حياته, وثبت التوسل بغيره بعد موته باجماع الصحابة اجماعا سكوتيا
لعدم انكار احد منهم على عمر فى توسله بالعباس , وعندى أنه لا وجه لتخصيص جواز
التوسل بالنبى(ص) كما زعمه الشيخ عزالدين بن عبدالسلام لأمرين:
الاول: ماعرفناك به من اجماع الصحابة
والثانى: أن التوسل الى الله باهل الفضل والعلم هو فى
التحقيق توسل باعمالهم الصالحة ومزاياهم الفاضلة اذ لا يكون فاضلا الا باعماله,
فاذا قال القائل : اللهم انى اتوسل اليك بالعالم الفلانى فهو باعتبار ماقام به من
العلم, وقد ثبت فى الصحيحين وغيرهما ان النبى حكى عن الثلاثة الذين انطبقت عليهم
الصخرة أن كل واحد منهم توسل الى الله باعظم عمل عمله فارتفعت الصخرة, فلو كان
التوسل بالاعمال الفاضلة غير جائز أو شركا كما زعمه المتشددون فى هذا الباب كابن
عبدالسلام, ومن قال بقوله من اتباعه لم تحصل الاجابة لهم ولا سكت النبى عن انكار
مافعلوه بعد حكايته عنهم, وبهذا تعلم أن مايورده المانعون من التوسل بالانبياء
والصلحاء من نحو قوله تعالى: ( ومانعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى) , ونحو قوله
تعالى: ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) , ونحو قوله تعالى : ( له دعوة الحق والذين
يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشى) . ليس بوارد بل هو من الاستدلال على محل
النزاع بما هو أجنبى عنه, فان قولهم: مانعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى, مصرح
بانهم عبدوهم لذلك, والمتوسل بالعالم مثلا لم يعبده بل علم ان له مزية عند الله
بحمله العلم فتوسل به لذلك, وكذلك قوله: ( فلا تدعو مع الله أحدا) فانه نهى عن ان
يدعى مع الله غيره كأن يقول بالله وبفلان, والمتوسل بالعالم مثلا لم يدع الا الله
فانما وقع منه التوسل عليه بعمل صالح عمله بعض عباده كما توسل الثلاثة الذين
انطبقت عليهم الصخرة بصالح أعمالهم, وكذلك قوله: ( والذين يدعون من دونه ) الآية.
فان هؤلاء دعوا من لا يستجيب لهم, والمتوسل
بالعالم مثلا لم يدع الا الله ولم يدع غيره معه, فاذا عرفت هذا لم يخف عليك دفع
مايورده المانعون للتوسل من الادلة الخارجة عن محل النزاع خروجا زائدا على
ماذكرناه كاستدلالهم بقوله تعالى: ( وما ادراك ما يوم الدين , ثم ما ادراك ما يوم
الدين, يوم لا تملك نفس لنفس شيا والامر يومئذ لله ) . فان هذه الآية الشريفة ليست
فيها دلالة الا انه تعالى هو المنفرد بالامر فى يوم الدين وانه ليس لغيره من الامر
شيى , والمتوسل بنبى من الانبياء أو عالم من العلماء هو لا يعتقد أن لمن توسل به
مشاركة لله جل جلاله قد هذا لعبد من العباد سواء كان نبيا أو غير نبى فهو فى ضلال
مبين, وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله: ( ليس لك من الامر شى) قل ( لا أملك
لنفسى نفعا ولا ضرا) فان هاتين الآيتين مصرحتان بانه ليس لرسول الله من أمر الله شى
وأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف يملك لغيره, وليس فيهما منع التوسل به أو
بغيره من الانبياء أو الاولياء أو العلماء, وقد جعل الله لرسول الله المقام
المحمود مقام الشفعاعة العظمى وارشد الخلق الى ان يسالوه ذلك ويطلبوه منه, وقال له
: سل تعط واشفع تشفع, وقيل ذلك فى كتابه العزيز بان الشفاعة لا تكون الا باذنه ولا
تكون الا لمن ارتضى , وهكذا الاستدلال على منع التوسل بقوله صلى الله عليه وسلم
لما نزل قوله تعالى: ( وانذر عشيرتك الاقربين ) : يا فلان ابن فلان لا املك لك من
الله شيئا, يا فلانة بنت فلان لا املك لك من الله شيئا, فان هذا ليس فيه الا
التصريح بانه لا يستطيع نفع من اراد الله ضره ولا ضر من اراد الله تعالى نفعه,
وأنه لا يملك لاحد من قرابته فضلا عن غيرهم شيئا من الله, وهذا معلوم لك مسلم,
وليس فيه أنه لا يتوسل به الى الله فان ذلك هو طلب الامر ممن له الامر والنهى
وانما أراد الطالب أن يقدم بين يدى طلبه مايكون سببا للاجابة ممن هو المنفرد
بالعطاء والمنع وهو مالك يوم الدين). مفاهيم يجب أن تصحح
ص
ان
من اروع ما قرأت, من ردود العلماء على هذه الفئة, ما سطرته أنامل الشيخ يوسف
الدجوى رحمه الله, وأجزل له المثوبة, وأنا أسوق مقالته مع ما فيها من طول لينتفع
بها, وأكتفى بها دليلا على حسم النزاع, فيما يختص بالتوسل به صلى الله عليه وسلم
وبالأولياء.
كذلك
أحببت أن يعلم الباحث المنصف, أن فى الأمر مكانا للرأى الآخر, يعتقد صاحبه أنه
يملك لممارساته الحجة والدليل, ليسعنا ما وسع العقلاء, كرها فى الخلاف الذى يفتت
كيان الأمة, فى وقت هى أحوج الى الوحدة والتضامن, ليعذر كل منا الآخر , وليرض له
بحجته, ما دامت عن اجتهاد يسنده الدليل.
قال
الدجوى ص149- 168 : ( انه لا بأس أن نتوسل بالنبى ونستغيث به فى حياته وبعد مماته,
لأن التوسل انما هو بمنزلته عند الله تعالى, وهى ثابتة له فى الدنيا والآخرة,
والمطلوب منه هو الله تعالى, على أنا لو طلبنا من النبى أن يتشفع لنا عنده تعالى
لصح عقلا ونقلا, فانه يمكنه وهو فى البرزخ أن يسأل الله لنا كما كان يسأله فى
حياته.
وقد قلنا:
ان الأرواح بعد الموت باقية فاهمة مدركة, بل نقلنا عن امامهم ابن القيم أن للروح
بعد مفارقة الجسد أعمالا تعملها. (( فى هذا العالم )) لم يكن يمكنها أن تعملها حال
اتصالها بالبدن, الى آخر مانقلناه عنه.
وهو معقول
جدا, فأن الأرواح لم تستمد قوتها من الأشباح حتى تذهب قواها وخصائصها بمفارقتها,
بل الأشباح هى التى تستمد حياتها وأفاعيلها من الأرواح, فما هذا الاشتباه الذى أدى
الى قلب الحقائق ومصادمة المعقول والمنقول.
على أن
تخصيص الجواز بالحى دون الميت أقرب الى ايقاع الناس فى الشرك, فانه يوهم أن للحى
فعلا يستقل به دون الميت, فأين هذا من قولنا: ان الفعل فى الحقيقة لله لا للحى ولا
لميت؟! ومن أمعن النظر فى كلامهم لم يفهم منه الا مذهب المعتزلة فى الأحياء, ومذهب
الذين يئسوا من أصحاب القبور فى الأموات.
وعلى كل حال
فالغفلة عن الفاعل الحقيقى, وتخيل أن الفاعل غيره أظهر فى الأحياء منه فى الأموات.
وقد قلنا لك كلام (( الشوكانى )) – وهو من أئمتهم- أيضا- فى التوسل ورده على ((
العز بن عبدالسلام )) فى تخصيصه جواز ذلك بالنبى وقال: انه لا فرق بينه وبين غيره.
ولنقل كما
قال على سبيل التنزل عسى أن ينقطع النزاع بيننا وبينهم: لماذا لا تجعلون التوسل
بالولى أو النبى توسلا بعمله الصالح, فانك تتوسل بالولى من حيث هو ولى مقرب الى
الله تعالى, وما تقرب اليه الا بما أحبه من صالح الأعمال, وسؤال الله بالاعمال
الصالحة مجمع علي جوازه منا ومنكم؟! وستسمعون أكثر من هذا. ولنذكر لكم اليوم عبارة
ابن قدامة وهو من كبار الحنابلة الذين أنتم على مذهبهم, وقد قال فيه ابن تيمية: ((
انه لم يدخل الشام بعد الأوزاعى أفضل منه )) فلعله يحرك منكم الانصاف او يذكركم
بمذهبكم ان كان لكم مذهب كما تدعون.
نريد أن
نحاكمكم الى العقل تارة, والى ما قاله (( الشوكانى )) (( وابن القيم )9 وأئمة
الحنابلة تارة اخرى.
وليت شعرى هل يفيد
شى من هذا! (( بكل تداوينا فلم يشف ما بنا )) وقد قال الله فى حق قوم اشربوا فى
قلوبهم التعصب والعناد: ( وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا
يخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ) وسر ذلك كما بين الله أنهم كانوا
يتكبرون فى الأرض بغير الحق, وأى تكبر أعظم من تكبر من يحتقر جميع المسلمين, ويعتقد أن لا ناجى
غيره! ولكنا نكتب لغير جهلة الوهابية كى نقيه من عدواهم, وللمنصفين منهم كى يرجعوا
الى الحق اذا تبين.
أما
عبارة ابن قدامة الحنبلى فى ( مغنيه ) الذى هو من أجل كتب الحنابلة على الاطلاق
فهاك نصها: قال فى صفة زيارته فى الصفحة 590 من الجزء الثالث: تأتى القبر فتولى
ظهرك القبلة, وتستقبل وسطه وتقول: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته,
السلام عليك يانبى الله وخيرته من خلقه, الى
أن قال: اللهم أجز عنا نبينا أفضل ما جازيت به أحدا من
النبيين والمرسلين, وابعثه المقام المحمود الذى وعدته يغبطه به الأولون
والآخرون)), الى أن قال: (( اللهم انك قلت وقولك الحق: ( ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم
جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما), وقد أتيتك
مستغفرا من ذنوبى مستشفعا بك الى ربى.
فانظر
الى استشفاعه به وهو فى قبره الذى يحرمه
الوهابيون (( الحنابلة )) ! وأظن أنهم لا يجرءون على التفرقه بين الا ستشفاع
والتوسل, وان كنا لا نستبعد منهم مايعقل وما لا يعقل, كما نعتقد أنهم لا يفهمون الا مايفهمه الناس من أن الزائر يستغفر
والرسول يستغفر أيضا وهو فى البرزخ, والا فلا معنى لا يراد هذه الآية.
ولا بعد فى
استغفاره بعد موته, فقد ورد فى الحديث الصحيح (( تعرض على أعمالكم- أى بعد الموت-
فان وجدت خيرا حمدت الله وان وجدت شرا استغفرت لكم )) وقد أطال المناوى وغيره فى
تصحيح هذا الحديث, فأنت تراه أثبت الاستغفار لنا بعد وفاته بنص الحديث.
وفى شرح
المقنع المطبوع مع المغنى على نفقة جلالة الملك ابن سعود وبتصحيح الأستاذ رشيد رضا
فى الصفحة ( 495) مثله حرفا بحرف, وفيه زيادة على ذلك ما نصه: روى الدارقطنى عن
ابن عمر قال: قال رسول الله: (( من حج فزار قبرى بعد وفاتى فكأنما زارنى فى حياتى
)) وفى رواية: (( من زار قبرى وجبت له شفاعتى )) اه. والدارقطنى من أعظم المحدثين
تحريا وأكثرهم تشددا فى الحديث, ولكنه وافق على حديث الزيارة كغيره من الحفاظ
النقاد كما بينه السبكى فى (( شفاء السقام )) بما لا مزيد عليه.
فهذا كلام
الحنابلة الأول المتبعين لمذهب الامام أحمد, المتمسكين بسنة النبى ومحبته كسائر
علماء المذاهب.
ولنذكر لك بعد ذلك ما وعدنا به من أدلة التوسل من السنه الصحيحه فتقول :(
شى من أدلة التوسل ):
جواز
التوسل وحسنه معلوم لكل ذى دين , وكانه مر كوز فى الفطر الانسانيه ان يتوسل الى
الله بانبيائه وأصفيائه والمقربين لديه , ولذلك يذهب الناس يوم القيامه للانبياء
كى يشفعوا لهم لمنزلهم عنده , وان كان الله اقرب اليهم من حبل الوريد , واتباع كل
نبى كانوا يتوسلون الى الله بذلك النبى .
وقد ثبت
التوسل به ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وجوده وبعد وجوده فى الدنيا وبعد موته فى
مدة البرزخ وبعد البعث فى عرصات القيامه . أما التوسل به قبل وجوده فيدل له ما
أخرجه الحاكم وصححه , ولم يتعقبه الذهبى فى كتابه الذى تعقب به الحاكم فى مستدركه
.
وقد صح عن
مالك ـ ايضا على ما رواه القاضى عياض فى ( الشفاء) ـ ان آدم لما اقترف الخطيئه
توسل الى الله بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له : من اين عرفت محمدا ولم
اخلقه ؟ فقال وجدت اسمه مكتوبا بجنب اسمك فعلمت انه احب الخلق اليك , فقال الله :
انه لآحب الخلق الىّ واذ توسلت به فقد غفرت لك .
وقال مالك
للمنصور وقد سأله : يا أبا عبدالله أأستقبل القبلة وأدعو أم استقبل النبى ـ صلى
الله عليه وسلم ـ ؟ فقال له الامام مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك الى الله
ووسيلة أبيك آدم . يشير الى ذلك الحديث . وقال المفسرون فى قوله تعالى : ( وكانوا
من قبل يستفتحون على الذين كفروا) : ان قريظة والنصير كانوا اذا حاربوا مشركى
العرب استنصروا عليهم بالنبى المبعوث فى آخر الزمان فانت تراهم سالوا الله به قبل
وجوده .
اما التوسل
به بعد وجوده فى حياته فلا اظن ان احدا يمارى فيه , فقد كانوا يذهبون اليه فى كل
شده : واذا اجدبوا , او نزلوا منزلا فلم يجدوا به ماء , وعند ما يمسهم ضر او كرب ,
مما لا يسعنا الافاضه فيه الان , وان انكره منكر ملانا له الدنيا ادله وبراهين ,
وان سموا بعضه استغاثه فلا ضرر فانه يثبت المطلوب بالطريق الاولى ويرد عليهم على
حال , والنزاع ليس فى الفاظ وعبارات كما قلنا فى العدد السابق .
لكن نسوق لك
الان حديثا صحيحا اخرجه الترمذى وصححه والنسائى والبيهقى والطبرانى باسانيد صحيحه
اعترف بها الحافظ حتى ( الشوكانى ) : رووا جميعا عن عثمان بن حنيف ـ رضى الله عنه
ـ ان رجلا اعمى جاء الى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم جلوس معه , فشكا اليه
ذهاب بصره فامره بالصبر , فقال ليس لى قائد وقد شق على فقد بصرى , فقال له : ((
ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قل : اللهم انى اتوجه اليك بنبيك محمد نبى
الرحمه , يا محمد انى توجهت بك الى ربى فى حاجتى لتقضى لى اللهم شفعه فى ) وفى
روايه ( فان كان لك حاجه فمثل ذلك ) قال عثمان بن حنيف : فو الله ما تفرق بنا
المجلس حتى دخل علينا بصيرا كأنه لم يكن به ضر . هذا هو الحديث الصحيح الصريح الذى
كان ينبغى أن يقطع النزاع .
ولكن السخيف
المتعصب لا يعدم خيالا فاسدا وكلاما فارغا , وقد قال الله تعالى : ( وكان الانسان اكثر شىء جدلا ) . فلنتظر حتى
يتخيل , وانى ألفت نظرك الى قوله عليه السلام : ( فان كان لك حاجه فمثل ذلك ) والى
ندائه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو غائب عنه , وهو مما يحرمه الوهابيون أو يجعلونه
شركا .
وأما التوسل
به بعد وفاته فيمكننا أن نستدل عليه بهذا الحديث , فان قوله ـ صلى الله عليه وسلم
ـ ( فان كان لك حاجه فمثل ذلك ) صريح فى جوازه بلا قيد ولا شرط , ويد له أيضا ما
رواه الطبرانى والبيهقى والترمذى بسند صحيح عن عثمان بن حنيف : أن رجلا كان يختلف الى
عثمان بن عفان زمن خلافته فى حاجه له فكان لايلتفت اليه , فرجا عثمان بن حنيف أن
يكلمه فى شأنه فعلمه الدعاء المذكور فتوضأ وصلى ثم دعا به كما علمه, ثم جاء الى
باب عثمان فأخذه الخادم وأدخله عليه فأجلسه بجانبه على الطنفسه ثم قضى حاجته وقال
له : اذا عرضت لك حاجة فأتنا , فلما قابل الرجل عثمان بن حنيف قال له : جزاك الله
خيرا , ما كان ينظر فى حاجتى حتى كلمته فيها , فقال له : والله ما كلمته ولكنى كنت
مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فدخل عليه أعمى , وذكر الحديث .
وهذا وقد توسل
ـ صلى الله عيله وسلم ـ بالأنبياء السابقين بعد موتهم كما فى الحيث الصحيح .
فعن أنس بن
مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال : ( لما ماتت فاطمه بنت اسد بن هاشم أم على بن
أبى طالب ـ رضى الله تعالى عنه ـ , وكانت قد ربت النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل
عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجلس عند رأسها ثم قال : رحمك الله يا أمى
. وذكر ثناءه عليها , ثم كفنها ببردته وأمر بحفر قبرها , قال فلما بلغوا اللحد
حفرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده وأخرج ترابه بيده , فلما فرغ دخل رسول
الله ـصلى الله عليه وسلم ـ فاضطجع فيه ثم قال : ( الله الذى يحيى ويميت وهو حى لا
يموت ) اغفر لأمى فاطمه بنت أسد ووسع لها مدخلها بحق نبيك والانبياء الذين من قبلى
فانك أرحم الرحمين ) .
أخرجه
الطبرانى فى الكبير والاوسط وابن حبان والحاكم بسند صحيح وروى ابن أبى شيبه عن
جابر ـ رضى الله عنه ـ، ورواه أبو نعيم فى الحليه عن أنس ـ رضى الله تعالى عنه ـ.
ثم نقول : انهم
كانوا يتبركون باثاره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد موته . فقد ثبت انه كان له ـ صلى
الله عليه وسلم ـ جبه عند أسماء بنت أبى
بكر كانوا يستشفون بها , ولا معنى لهذا الا أنهم كانوا يتوسلون بآثاره الى الله
تعالى فيشفيهم ببركتها .
والتوسل يقع
على وجوه كثيره لا على وجه واحد كما يفهمه هؤلاء , أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا
يتوسلون به ! وفى الباب شىء كثير لعلنا نذكره بعد .
أما توسل عمر
بالعباس حينما استسقى به دون النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلكون ذلك هو سنه
الاستسقاء أو لكون العباس من ذوى الحاجه للمطر , أو لكون عمر أراد أن يبين للناس
أنه يجوز التوسل بغيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفضله أو لقرابته منه عليه السلام ,
أو لخوفه على ضعفاء المسلمين و عوامهم اذا تأخر المطر بعد التوسل , أو ليدخلهم على
أن بالفضول جائز مع وجود الفاضل , والا فعلى أفضل من العباس وكذا عمر .
على أن
البيهقى فى ( دلائل النبوة ) أخرج ما يأتى , وكذا أخرجه بن أبى شيبة بسند صحيح عن
مالك الداخازن عمر ـ رضى الله عنه ـ قال : أصاب الناس قحط فى زمان عمر , فجاء رجل
قبر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : يارسول الله استسق الله لأمتك فانهم قد
هلكوا , فأتاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى المنام فقال : ائت عمر فأقرئه
السلام وأخبره أنهم مسقون وقل له : عليك الكيس الكيس ) فأتى الرجل عمر فأخبره ,
فبكى عمر ـ رضى الله عنه ـ ثم قال : يارب ما آلو الا ما عجزت عنه .
ومحل
الاستشهاد فى هذا الاثر طلبه الاستسقاء من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد موته
واقرار عمر اياه على ذلك .
هذا وأحب أن
تتذكر ما قلناه من أن المسؤول هو الله تعالى لا فاعل غيره ولا خالق سواه , وانما
نسأله بمنزلة حبيبه لديه ومحبته له , وذلك شىء ثابت لا يتغير فى الدنيا ولا فى
الآخره .
ومن شك فى
منزلته أو قربه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد كفر . على أن قول عمر بمحضر من الصحابه
انا نتوسل اليك بعم نبيك يدل على جواز التوسل بالمنزلة والا لم يكن له معنى , وأى
حاجه اليه اذا كان المقصود دعاء العباس , وهل ذلك من دعاء العباس ؟!
أما التوسل به
فى عرصات القيامه فلا حاجه للاطالة فيه , فان أحاديث الشفاعة بلغت مبلغ التواتر ,
وفيها : أن الناس يذهبون الى الانبــــياء يطلبون منهم الشفاعة , الى آخر ما هو
معروف : ( ضاق الكلام بنا من عظم ما اتسعا ) .
الخــــــــــــلاصة :
والخلاصة أنه
مما لا شك فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم له عند الله قدر على , ومرتبة رفيعه ,
فأى مانع شرعى أو عقلى يمنع التوسل به ـ فضلا عن الأدله التى تثبته ـ فى الدنيا
الآخرة . ولسنا فى ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين الا اياه ؟! فنحن ندعوه
بما أحب أيا كان , تارة نسأله بأعمالنا الصالحه لأنه يحبها , وتارة نساله بمن يحبه
من خلقه كما فى حديث آدم السابق وكما فى حديث فاطمه بنت أسد الذى ذكرناه , وكما فى حديث عثمان بن حنبف
المتقدم , وتارة نسأله بأسمائه الحسنى كما فى قوله ـصلى الله عليه وسلم ـ: ( أسالك
بأنك انت الله ) . أو بصفته أو فعله كما فى قوله فى الحديث الآخر : ( أعوذ برضاك
من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ) وليس مقصورا على تلك الدائرة التى يظنها الجاحدون .
وسر ذلك أن كل
ما أحبه الله صح التوسل به وكذا كل من أحبه من نبى أو ولى , وهو واضح لدى كل ذى
فطره سليمه ولا يمنع منه عقل ولا نقل , بلا تضافر العقل والنقل على جوازه ,
والمسئول فى ذاك كله الله لا شريك له , لا النبى , ولا الولى , ولا الحى , ولا
الميت ( قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم
لايكادون يفقهون حديثا ) .
واذا جاز
السؤال بالاعمال فالنبى أولى لأنه أفضل المخلوقات, والاعمال منها, والله أعظم حبا
له من الأعمال وغيرها. وليت شعرى ما المانع من ذلك, واللفظ لا يفيد شيأ أكثر من أن
للنبى قدرا عند الله, والمتوسل لا يريد غير هذا المعنى, ومن ينكر قدره عند الله
فهو كافر كما قلنا.
لو كنا
مثلهم نأخذ بالظنة ونتصيد الشبه ونسارع الى تكفير المسلمين لأمكن أن نقول لهم: ان
من لا يعرف قدر النبى أولى بالاشراك ممن عرفه, ومن استباح دماء المسلمين أقرب الى
الضلال ممن استبرأ لدينه وعرضه.
وبعد, فمسألة التوسل تدل على عظمة المسئول به
ومحبته, فالسؤال بالنبى انما هو لعظمته عند الله أو لمحبته اياه, وذلك مما لا شك
فيه.
على أن
التوسل بالاعمال متفق عليه منا ومنهم, فلماذا لا نقول ان من يتوسل بالانبياء أو
الصالحين هو متوسل بأعمالهم التى يحبها الله تعالى, وقد ورد بها حديث أصحاب الغار
فيكون من محل الاتفاق؟
ولا شك أن
المتوسل بالصالحين انما يتوسل بهم من حيث انهم صالحون فيرجع الأمر الى الأعمال
الصالحة المتفق على جواز التوسل بها, كما قلنا فى صدر المقالة.
ولنقتصر
اليوم على هذا وموعدنا الأعداد المقبلة ان شاء الله.
قال:( لا تزال ترد الينا الرسائل
بشان التوسل طلبا للتوضيح والاسهاب. وقد ذكر بعض مرسليها أن من الناس من يكفر المتوسلين
برسول الله- الذى سنتوسل به جميعا يوم القيامة على ما نطقت به الأحاديث الصحيحة.
ولو قالوا ان فى المسالة تفصيلا أو أن بعض العبارات التى يقولها المتوسلون أو
الزائرون ينبغى التحاشى عنها, وتعليم ما يصح أن يقوله فى توسله أو عند زيارته,
لقبلنا منهم ذلك وشكرناهم عليه, ولكنهم أفرطوا كل الأفراط, فرأينا أن نفيض القول فى
ذلك, فلعلنا بزيادة التقرير والتكرير نزيل تلك العقيدة التى هى أخطر شى على
الاسلام والمسلمين:
ولنجعل
الكلام معهم فى مقامين حتى نفحمهم بالمعقول والمنقول, فنقول: الكلام معهم من جهة
الدليل العقلى وما نضطر اليه من الدليل النقلى:
قبل الخوض
فى الموضوع نحب أن نشترط عليهم أن يصبروا صبر المرتاضين بصناعة المنطق, العارفين بقوانين المناظرة, فلا
يخرجوا عن الفرض الذى نفرضه حتى نتم الكلام فيه, وأن يعرفوا موضوع البحث فلا
ينتقلوا عنه الى غيره, وسنفرض الفروض كلها ثم نبطلها واحدا واحدا:
ولينظروا حتى لا يختلط المعقول بالمنقول, ولا
المنقول بالمعقول, وسنوفى كلا حقه ان شاء الله, وعسى ألا يكونوا بعد ذلك ممن يسلم
المقدمات ثم ينازع فى النتيجة, فنقول:
هؤلاء ان
كانوا يمنعون التوسل والاستغاثة ويجعلونهما شركا من حيث انهما توسل واستغاثة, فاستغاثة
المظلوم بمن يرفع ظلمه اذا شرك, واستغاثة الرجل بمن يعينه فى بعض شئونه شرك,
واستغاثة الملك بجيشه لدى الحروب شرك, واستغاثة الجيش بالملك فيما يصلح أمره شرك,
بل نقول: يلزمهم على هذا الفرض أن طلب المعونة من أرباب الحرف والصنائع التى لا
غنى للناس عنها شرك, وطلب المريض للطبيب شرك, بل يلزم بناء على تلك الكليات التى
تقتضيها الحيثية أن استغاثة الرجل الاسرائيلى بسيدنا موسى عليه السلام واجابته
اياه كما قال تعالى: ( فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى
عليه ) شرك, الى غير مما لا يقول به عاقل فضلا عن فاضل.
هذا كله
ان كانوا يقولون: انها ممنوعة من حيث انها استغاثة بغير الله كما فرضنا, فان
قالوا: ان الاستغاثة والتوسل بالاموات شرك دون الأحياء, قلنا لهم لا معنى لهذا بعد
أن سلمتم أن الاستغاثة بغير الله من الأحياء ليست بشرك, وبعد ما ورد به القرآن
ووقع عليه الاجماع فى كل زمان ومكان, ولا معنى لأن يكون طلب الفعل من غير الله
شركا تارة وغير شرك تارة أخرى, فانه فيه نسبة الفعل لغير الله على كل حال.
وان
قالوا: اننا لا نعتقد التأثير الذاتى من الأحياء الذين نطلب منهم المعونة, قلنا
لهم: يجب اذا ان تجعلوا مناط المنع هو اعتقاد التأثير الذاتى لغير الله تعالى لا
فرق بين الأحياء والأموات, فان وجد ذلك الاعتقاد كان شركا والا فلا, سواء كانت
الدعوة لحى أو ميت, وان كان مناط المنع هو تلك السببية الظاهرة التى تفهم من ظواهر
الألفاظ, وجب أن يكون ذلك شركا, حتى طلب الرجل من أخيه أت يعينه فى الحمل على
دابته, أو بناء داره, أو حفر نهره, الى غير ذلك كما أوضحنا فى الفرض الأول.
فان
قالوا: اننا ننسب تلك الأفعال والتاثيرات الى غير الله- تعالى – من الأحياء
معتقدين أن الخلق والايجاد ليس الا لله – تعالى – وأن الحى ليس له الا الكسب لا
غير, قلنا لهم كذلك من يطلب من الأموات أو يتوسل بهم, والقرينة فيهما واحدة وهو
ايمانه بان الله بيده ملكوت السموات والارض واليه يرجع الأمر كله, وان ماشاء كان
ومالم يشأ لم يكن, وأنه لا خالق غيره, ولا موجد سواه, وان كان سر المنع عندهم هو:
أن الميت لا يقدر على شى مما طلب منه.
فنقول لهم:
أولا- لا يلزم من
ذلك ان يكون الطلب شركا بل عبثا فقط, والاستغاثة بالاحياء أقرب الى الشرك منها
بالاموات, لانها أقرب الى اعتقاد تاثيرهم فى الاعطاء والمنع بمقتضى الحس والمشاهدة
لو لا نور الايمان وساطع البرهان.
ثانيا- ثم نقول
لهم: مامعنى قولكم: ان الميت لا يقدر على شى, وماسره وباطنه عندكم؟ ان كان ذلك
لكونكم تعتقدون أن الميت صار ترابا, فما اضلكم فى دينكم, وما أجهلكم بما ورد عن
نبيكم, بل عن ربكم من ثبوت حياة الأرواح, وبقائها بعد مفارقة الأجسام, ومناداة
النبى لها يوم بدر بقوله: (( يا عمرو بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا فلان بن فلان
انا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ماوعد ربكم حقا)) فقيل له: ما ذلك؟ فقال:
(( ماأنتم بأسمع لما أقول منهم)) ومن ذلك تسليمه على أهل القبور ومناداته لهم
بقوله: (( السلام عليكم يأهل الديار)). ومن ذلك عذاب القبر ونعيمه, واثبات المجىء
والذهاب الى الأرواح, الى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التى جاء بها الاسلام
وأثبتتها الفلسفة قديما وحديثا.
ولنقتصر هنا
على هذا السؤال:
أيعتقدون
أن الشهداء أحياء عند ربهم كما نطق القرآن بذلك أم لا؟ فان لم يعتقدوا فلا كلام
لنا معهم, لانهم كذبوا القرآن حيث يقول: ( ولا تقولوا لمن يقتل فى سبيل الله أموات
بل أحياء ولكن لا تشعرون) . ( ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتا بل أحياء
عند ربهم يرزقون ) .
وان اعتقدوا ذلك
فنقول لهم: ان الأنبياء وكثيرا من صالحى المسلمين الذين ليسوا بشهداء كأكابر
الصحابة أفضل من الشهداء بلا شك ولا مرية, فاذا ثبتت الحياة للشهداء فثبوتها لمن
هو أفضل منهم أولى.
على أن
حياة الأنبياء مصرح بها فى الأحاديث الصحيحة, وقد رأى- صلى الله عليه وسلم – موسى-
عليه السلام- يصلى فوق الكثيب الأحمر, وراجعه مرارا عندمت فرضت الصلاة خمسين فى كل
يوم وليلة حتى صارت خمسا, كما قابل آدم وابراهيم وغيرهما من الأنبياء- عليهم
السلام-, فهذا كله يثبت حياة الأرواح وأنه لا شك فيها.
فاذا نقول: حيث
ثبتت حياة الأرواح بالأدلة القطعية التى قدمنا بعضها فلا يسعنا بعد ثبوت الحياة
الا اثبات خصائصها, فان ثبوت الملزوم يوجب ثبوت اللازم كما أن نفى اللازم يوجب نفى
الملزوم كما هو معروف.
وأى مانع
عقلا من الاستغاثة بها والاستمداد منها كما يستعين الرجل بالملائكة فى قضاء
حوائجه, أو كما يستعين الرجل بالرجل (( وأنت بالروح لا بالجسم انسان)) .
وتصرفات الأرواح
على نحو تصرفات الملائكة لا تحتاج الى مماسة ولا آلة, فليست على نحو ما تعرف من
قوانين التصرفات عندنا فانها من عالم آخر ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى
)) وماذا يفهمون من تصرف الملائكة أو الجن فى هذا العالم؟
ولا شك أن
الأرواح لها من الاطلاق والحرية ما يمكنها من أن تجيب من يناديها, وتغيث من يستغيث
بها, كالأحياء سواء بسواء, بل أشد وأعظم. وقد ذكرنا لك فيما سبق عن ابن القيم أن
الأرواح القوية كروح أبى بكر وعمر ربما هزمت جيشا, الى آخر ماذكرناه. فأن كانوا لا
يعرفون الا المحسوسات ولا يعترفون الا بالمشاهدات فما أجدرهم أن يسموا طبيعيين لا
مؤمنين.
على أننا نتنزل
معهم ونسلم لهم أن الأرواح بعد مفارقة الأجساد لا تستطيع أن تعمل شيئا, ولكن نقول
لهم: اذا فرضنا ذلك وسلمناه جدلا فلنا أن نقرر: أنه ليست مساعدة الأنبياء
والأولياء للمستغيثين بهم من باب تصرف الأرواح فى هذا العالم على نحو ما قدمنا, بل
مساعدتهم لمن يزورهم أو يستغيث بهم بالدعاء لهم, كما يدعو الرجل الصالح لغيره,
فيكون من دعاء الفاضل للمفضول, أو على الأقل من دعاء الأخ لأخيه, وقد علمت أنهم
أحياء يشعرون ويحسون ويعلمون, بل الشعور أتم والعلم أعم بعد مفارقة الجسد لزوال
الحجب الترابية وعدم منازعات الشهوات البشرية.
وقد جاء
فى الحديث: أن أعمالنا تعرض عليه- صلى الله عليه وسلم- فان وجد خيرا حمد الله وان
وجد غير ذلك استغفر لنا. ولنا أن نقول ان المستغاث به والمطلوب منه الاغاثة هو
الله –تعالى-, ولكن السائل يسأل متوسلا الى الله بالنبى أو الولى فى أنه يقضى
حاجته, فالفاعل هو الله, ولكن أراد السائل أن يسأله – تعالى- ببعض المقربين لديه
الأكرمين عليه, فكأنه يقول: أنا من محبيه (( أو محسوبيه)) فارحمنى لأجله. وسيرحم
الله كثيرا من الناس يوم القيامة لأجل النبى وغيره من الأنبياء والأولياء
والعلماء.
وبالجملة
فاكرام الله لبعض أحباب نبيه لأجل نبيه بل بعض العباد لبعض أمر معروف غير مجهول,
ومن ذلك الذين يصلون على الميت ويطلبون من الله أن يكرمه ويعفو عنه لأجلهم بقولهم:
وقد جئناك شفعاء فشفعنا فيه.
والمقصود
من ذلك كله اثبات أن الله يرحم بعض العباد ببعض, على أن توجه الانسان الى النبى أو
الولى والتجاءه اليه تحس به روح النبى والولى تمام الاحساس, وهو كريم ذو وجاهة عند
الله- تعالى- كما قال تعالى فى بعض أصفيائه: ( وكان عند الله وجيها ) فتعتنى تلك
الروح بذلك الملتجىء أشد الاعتناء فى تسديده وتأييده, والدعاء له هى والذين
يجلونها ويحبون مسرتها ورضاها.
والأنبياء
والأولياء محبوبون للملائكة بشاهد قوله: (( ان الله اذا أحب عبدا نادى جبريل فى
السماء: ان الله يحب فلانا فأحبوه )) الى آخر الحديث, وأن الملائكة لتقول للذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا: ( نحن أولياؤكم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ) كما
نص على ذلك القرآن الشريف.
وذلك سر
التوجه الى الأولياء وزيارتهم, لتتنبه أرواحهم لحال الزائر, وتلتفت الى معونته بما
أعطاهم الله تعالى من الخصائص, كما تنفع أخاك بما أعطاك الله من قوة أو وجاهة أو
مكانة أو ثروة أو أعوان أو أنصار الى آخره, وان الأنسان هو هو فى الدنيا والآخرة,
من حيث روحه التى هى باقية فى العالمين جميعا. وليس الانسان انسانا الا بها كما
شرحنا, والأمر جلى (( ولكنها الأهواء عمت فأعمت )).
ولنرجىء
تتميم المقام الثانى, فربما طال الكلام فيه لعدد آخر – ان شاء الله.
والخلاصة:
انه
لا يكفر المستغيث الا اذا اعتقد الخلق والايجاد لغير الله تعالى. والتفرقة بين
الأحياء والأموات لا معنى لها, فانه اذا أعتقد الايجاد لغير الله كفر, على خلاف
للمعتزلة فى خلق الأفعال, وان اعتقد التسبب والاكتساب لم يكفر.
وانت
تعلم أن غاية ما يعتقد الناس فى الأموات, هو أنهم متسببون ومكتسبون كلأحياء, لا
أنهم خالقون موجدون كالآله , اذ لا يعقل أن يعتقد فيهم الناس أكثر من الأحياء وهم
لا يعتقدون فى الأحياء الا الكسب والتسبب, فاذا كان هناك غلط فليكن فى اعتقاد
التسبب والاكتساب, لان هذا هو غاية ما يعتقده المؤمن فى المخلوق كما قلنا, والا لم
يكن مؤمنا, والغلط فى ذلك ليس كفرا , ولا شركا.
ولا
نزال نكرر على مسامعك أنه لا يعقل أن يعتقد فى الميت أكثر مما يعتقد فى الحى,
فيثبت الأفعال للحى على سبيل التسبب ويثبتها للميت على سبيل التأثير الذاتى
والايجاد الحقيقى, فانه لا شك هذا مما لا يعقل.
فغاية
أمر هذا المستغيث بالميت- بعد كل تنزل – أن يكون كمن يطلب العون من المقعد غير
عالم أنه مقعد, ومن يستطيع أن يقول ان ذلك شركا؟ على ان التسبب مقدور للميت وفى
امكانه أن يكتسبه كالحى بالدعاء لنا, فان الأرواح تدعو لاقاربهم كما فى الحديث
الشريف اذا بلغهم عنهم ما يسوءهم, فيقولون: (( اللهم راجع بهم أو لا تمتهم حتى
تهديهم )) .
بل الأرواح
يمكنها المعاونة بنفسها كالأحياء, ويمكنها أن تلمك وترشدك كالملائكة, الى غير ذلك
على ما شرحناه, وكثيرا ما انتفع الناس برؤيا الأرواح فى المنام. ولعلنا نعود اليه)).
انتهى- مفاهيم اسلامية- مقالات وفتاوى- الشيخ الدجوى عضو
جماعة كبار العلماء بالأزهر, توفى سنة 1365هجرية – من مطبوعات مجمع البحوث
الاسلامية الأزهر- 1401ه-1981م- مصر.
هذا هو الشيخ
الدجوى, أجاز ما أنكره المخالف,وأثبت لأهل التوسل صلاح مذهبهم, ما دامت عقولهم
تفقه وقلوبهم تعى أن الفاعل هو الله, وأن المتوسل به ما استحق أن يتوسل به الا
لصلاح عمله, وصلاح العمل له أعتبار عند الله, وأن صاحبه مقبول, ومرضى عنه , ومقضى
له أمره , وفى الحديث القدسى- البخارى باب ماجاء فى الرقائق
: (( وان سألنى لأعطينه )) , ولا
مفهوم للحياة ولا للممات ما دامت الروح
باقية وصاحبها ممن شهد له بالاستقامة.
أقول اذا كان
كل قول يخرج من المسلم ولا يجد القبول عند دعاة الوهابية, فيقذفون صاحبه بالشرك,
فقد أشرك اذا الامام النووى بقوله فى أذكاره , باب مايقول اذا انفلتت دابته: ((
روينا فى كتاب ابن السنى, عن عبدالله بن مسعود عن رسول الله (ص) قال اذا انفلتت
دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: ياعباد الله ! احبسوا, ياعباد الله! احبسوا, فان لله
عز وجل فى الأرض حاضرا سيحبسه ). قلت: حكى لى بعض شيوخنا الكبار فى العلم أنه
افلتت له دابة أظنها بغلة, وكان يعرف هذا الحديث, فقالها فحبسها الله عليهم فى
الحال. وكنت أنا مرة مع جماعة, فانفلتت منها بهيمة وعجزوا عنها, فقلته, فوقفت فى
الحال بغير سبب سوى هذا الكلام )). فاذا كان هذا كلام النووى مصرحا به, داعيا
اليه, ثم لا يعقب عليه بأنه من صنع المشركين, فانه بلا شك يرى أن هذا النداء ضرب
من أنواع التوسل والتوجه الى الله بعباده الخلص. ونظيره مارواه فى أذكاره- أعنى
النووى- باب مايقوله اذا خدرت رجله (( روينا فى كتاب ابن السنى عن الهيثم بن حنش
قال: كنا عند عبدالله بن عمر فخدرت رجله فقال له رجل اذكر أحب الناس اليك فقال:
يامحمد, فكأنما نشط من عقال. وروينا عن
مجاهد قال حدرت رجل رجل عند ابن عباس, فقال ابن عباس: أذكر أحب الناس اليك فقال:
محمد فذهب خدره)).
وأنت ترى أن هؤلاء الأئمة, من أمثال النووى,
وابن السنى, لم تكن تتنازعهم الوساوس,
والظنون فى هذه التوسل, وأنه كان من فعلهم مع علمهم بالشرك وبما يفضى اليه, حتى
خرق الوهابية – بما توهموه شركا- هذا الجدار المنيع, لقوم مؤمنين. كذلك من السخف
أن ترى هؤلاء المتنطعين أعرف بالله, وأكمل ايمانا به , وأحرص على دينه من الامام
النووى.
وقد ذكرت
آنفا أن المتوسل لا يرى فى المتوسل به الا
صلاح عمله, فلا داعى للاطالة, وهذا كاف فى اثبات الحجة على المخالف.
فاذا سلم المعاند بهذا رضينا منه للحمة الأمة
ومستقبلها الأزهر, وان أبى الا العناد ملأنا عليه الدنيا- لو شئنا- أدلة تقول
بجواز التوسل بسيدنا رسول الله(ص)
وبالصالحين من أمته.
4- الزيارة والشفاعة
قال ابن عثيمين: (( فاذا قال قائل: جئت الى رسول الله- عليه الصلاة
والسلام- عند قبره, وسالته أن يستغفر لى , أو ان يشفع لى عند الله فهل يجوز ذلك أو
لا؟
قلنا لا يجوز,
فاذا قال : اليس الله يقول: ( ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله
واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ). قلنا له : بلى, ان الله يقول ذلك,
ولكن يقول ( ولو انهم اذ ظلموا) . واذ هذه ظرف لما مضى وليس ظرفا للمستقبل لم يقل
الله ( ولو أنهم اذا ظلموا ) بل قال ( اذ ظلموا) فالآية تتحدث عن أمر وقع فى حياة
رسول الله واستغفار الرسول بعد مماته أمر متعذر لانه اذا مات ابن آدم انقطع عمله
الا من ثلاث كما قال الرسول ( صدقة جارية, أو علم ينتفع به , أو ولد صالح يدعو له
) . فلا يمكن لانسان بعد موته أن يستغفر لاحد, بل ولا يستغفر لنفسه أيضا لان العمل
أنقطع)). فتاوى ابن عثيمين 1\89 .
هذا كلام ا
لرجل وقد عرفته ! فهل تفصيله هذا أخذه عن أهل العلم أم أخذه عن المتنطعين أمثاله؟
لنر اذا. ذكر الائمة القرطبى, النسفى, الثعالبى, وابن كثير فى تفسيرهم هذه الآية,
( ولو أنهم اذ ظلموا انفسهم ) قصة العتبى أو الاعرابى المشهورة: قال الامام
القرطبى فى تفسيره فى تفسير قوله تعالى:( ولو أنهم اذ ظلموا انفسهم جاءوك
فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ): روى أبو صادق عن
على قال : قدم علينا اعرابى بعد مادفنا رسول الله وحثا على رأسه من ترابه فقال:
قلت يارسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله ووعينا عنك, وكان فيما أنزل الله عليك
( ولو أنهم اذ ظلموا ) الآية, وقد ظلمت نفسى وجئتك تستغفر لى, فنودى من القبر أنه
قد غفر لك.
أما الامام ابن
كثير فقد ذكر فى تفسير الآية( ولو أنهم اذ ظلموا), قصة العتبى , فقال: (ذكر جماعة
منهم الشيخ أبو منصور الصباغ فى كتابه – الشامل- الحكاية المشهورة عن العتبى قال:
كنت جالسا عند قبر النبى فجاء اعرابى فقال: السلام عليك يارسول الله, سمعت الله
يقول: ( ولو أنهم اذ ظلموا أنفسهم جاوءك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله توابا رحيما) وقد جئتك مستغفرا لذنبى مستشفعا بك الى ربى, ثم أنشا يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسى الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه
الجود والكرم
ثم انصرف
الأعرابى, فغلبتنى عينى فرأيت النبى فى النوم, فقال: يا عتبى الحق الأعرابىى فبشره
أن الله قد غفر له.
هذه القصة ذكرها المصنفون فى المناسك, واستحبوا
فعلها لزائر قبر النبى. و لو كان فى الامر
شبهة, مااستحبوها له. وهذا الذى سكتوا عنه من فعل الأعرابى استحسانا له وقبولا به, واستحبابا لفعله عند
قبر النبى, يصلح ان يفهم منه دليلا على أن الآية , تشمل حالة الحياة وحالة الوفاة
عندهم. فماذا يقول المتنطعون؟
قال الامام
الغمارى فى كتابه الرد المحكم: ( قال الله تعالى: (( ولو انهم اذ ظلموا أنفسهم
جاوءك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما )) فهذه عامة
تشمل حالة الحياة وحالة الوفاة وتخصيصها بأحدهما يحتاج إلى دليل وهو مفقود هنا,
فان قيل من اين اتى العموم للآية حتى يكون تخصيصها بحالة الحياة دعوى باطلة تحتاج
الى دليل؟ قلنا من وقوع الفعل فى سياق الشرط والقاعدة المقررة فى الأصول أن الفعل
اذا وقع فى سياق الشرط كان عاما لان الفعل فى معنى النكرة لتضمنه مصدرا منكرا
والنكرة الواقعة فى سياق النفى أو الشرط تكون للعموم وضعا, وقد ذكر ابن كثير قصة
الأعرابى... ). ص45 وهو الذى جاء الى قبر رسول الله , وقد سبق
ذكرها.
ها قد بان لك ان
القضية فيها متسع للراى, مما يؤكد أن الركون الى فهم وأحد والزام الناس به تعنت
ووضع للامة فى مسار يفضى بها الى التعصب وشطب الآخر, مما يؤثر بالضرورة فى لحمة
الامة وأجتماعها, والذى فيه سر قوتها قال تعالى: ( انما المؤمنون اخوة ) فكيف
يتحقق مطلوب الآية والحالة هذه؟
وقد سئل أحد
الاعلام العاملين عن قوم تخاصموا فى المسجد فى عدد ركعات صلاة القيام وقد أدى
الخلاف الى شجار بينهم أو كاد؟
فقال: الفتوى أن
يغلق المسجد حتى تسكن النفوس, لأن صلاة القيام سنة ووحدة الأمة فريضة, ولا تقوم
السنة مقام الفريضة.
فانظر رحمك الله
الى هذه العقول النيرة, ثم انظر الى هؤلاء المهووسين الذين ضربوا باقوال أهل العلم
عرض الحائط, معولين فيما ذهبوا اليه على رجل وأحد ( ... امامهم ابن تيمية الذى
قدموه على جميع الائمة وهم فى تلك النزعات الخبيثة على الرغم من دعوة الأجتهاد,
مقلدون له فانون فى تقليده, ... ).
أما الأستشفاع برسول
الله بعد موته و الذى انكره ابن عثيمين, فأقول: ذكر الحافظ ابن حجر فى فتح البارى
شرح صحيح البخارى فى حديث الاستثقاء قال: ( وروى ابن أبى شيبة باسناد صحيح من
رواية أبى صالح السمان عن مالك الدارى- وكان خازن عمر- قال: أصاب الناس قحط فى زمن
عمر فجاء رجل الى قبر النبى فقال: يارسول الله استسق لامتك فانهم قد هلكوا, فأتى
الرجل فى المنام فقيل له : ائت عمر ... الحديث, وقد روى سيف فى الفتوح أن الذى رأى
المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزنى أحد الصحابة) أما تمام الحديث الذى وجه به رسول الله الرجل
أن ياتى عمر, فقد ذكره الحافظ البيهقى : ( فأتاه الرسول فى المنام فقال: (( ائت
عمر فأقرئه منى السلام وأخبرهم أنهم مسقون وقل له: عليك بالكيس الكيس)) فأتى الرجل
فأخبر عمر فقال: يارب! ما آلو الا ماعجزت عنه).
قال الحافظ ابن
كثير فى – البداية والنهاية- فى حوادث عام ثمانية عشر , - هذا اسناد صحيح .
ان قول الحافظ ابن
حجر فى رواية ابن أبى شيبة, – باسناد صحيح- كاف فى الاستدلال على تهافت فتوى ابن
عثيمين- لأن مجى الرجل الى قبر رسول الله غايته أن يستشفع برسول الله لمجى السقيا, وقد كان- ونحن نزرى بمكانة ابن
حجر , لما نضعه موضع المقارنة مع هذا الجرىء على مقام رسول الله , ولكن حتى نستبين
سبيل المتطرفين, لا نرى حرجا فى المقارنة . اذ أن مثل هذه الفتاوى, بلا نظر
ولااعتبار لأقوال الطرف الآخر , والزام الناس بها والايحاء اليهم بأن ماسواها
أنحراف عن الجادة, وخروج عن ربقة الاسلام لهو التطرف بعينه.
ثم اذا سألت
ابن عثيمين عن مرجعه ومعوله فى نفى وانكار
ماسبق ذكره بالدليل- المختصر- ؟
لقال لك شيخ الاسلام ابن
تيمية وحده , وحده ! . ولما استطاع ان يركن الى غير ابن تيمية, ومن لف لفه, لأنه
يعلم أن الراسخين فى العلم والمحبين لسيدنا رسول الله, قد أجمعوا على ما يخالف مذهبه.
قال الشيخ يوسف الدجوى: ( ان من علامات
الراسخين فى العلم أن يحترموا كلام الأئمة, ومادرجت عليه الأئمة. أما شيخهم ابن
تيمية فلم يسلم منه أحد حتى أبو بكر, وعمر ,وعلى , وفاطمة. ولا يسعنا تفصيل ذلك
الآن).
أقول: تفصيل
تهجم ابن تيمية على الأئمة, جاء منه فى الدرر الكامنة للحافظ ابن حجر , ونقله صاحب
–التكملة- محمد زاهد الكوثرى فقال- أعنى ابن حجر: (( واستشعر أنه مجتهد- يعنى ابن
تيمية- فصار يرد على صغير العلماء وكبيرهم, قديمهم وحديثهم, حتى انتهى الى عمر(
ابن الخطاب رضى الله عنه) فخطأه فى شى فبلغ الشيخ ابراهيم الرقى الحنبلى فأنكر
عليه فذهب اليه واعتذر واستغفر وقال فى حق على ( كرم الله وجهه) أخطأ فى سبعة عشر
شيئا ثم خالف فيها نص الكتاب, منها اعتداد المتوفى عنها زوجها أطول الأجلين, وكان
لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع فى الأشاعرة حتى انه سب الغزالى فقام عليه قوم كادوا
يقتلونه. وذكروا انه ذكر حديث النزول فنزل عن المنبر درجتين فقال: كنزولى هذا,
فنسب الى التجسيم. وافترق الناس فيه شيعا, منهم من نسبه الى التجسيم لما ذكر فى
العقيدة الحموية ( التى رد عليها ابن جهبل) والواسطية وغيرها من ذلك, كقوله: ان
اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية لله وأنه مستو على العرش بذاته فقيل له يلزم
من ذلك التحيز والانقسام فقال: أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام
فألزم بأنه يقول بالتحيز فى ذات الله تعالى, ومنهم من ينسبه الى الزندقة لقوله: ان
النبى صلى الله عليه وسلم لا يستغاث به. لأن فى ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم رسول
الله, وكان أشد عليه فى ذلك النور البكرى, فانه لما عقد له المجلس بسبب ذلك, قال
بعض الحاضرين يعزر فقال البكرى لا معنى لهذا القول فانه ان كان تنقيصا يقتل وان لم
يكن نتقيصا لا يعزر, ومنهم من ينسبه الى النفاق لقوله فى على( كرم الله وجهه)
ماتقدم, ولقوله انه كان مخذولا حيثما توجه وانه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها
وانما قاتل دون الرياسة لا للديانة, وأن عثمان( رضى الله عنه ) كان يحب المال.
ولقوله أبوبكر ( رضى الله عنه) أسلم شيخا لا يدرى مايقول وعلى ( كرم الله وجهه)
أسلم صبيا والصبى لا يصح اسلامه على قول. ونسب قوم الى أنه كان يسعى فى الامامة
الكبرى فانه كان يلهج بذكر تومرت ويطريه فكان ذلك مؤكدا لطول سجنه وله وقائع
شهيرة, وكان اذا حوقق وألزم يقول لم أرد هذا انما أردت كذا فيذكر احتمالا
بعيدا....)). هذه الترجمة نقلها ابن حجر فيما نقل من الأقوال فى ذمه-أعنى ابن
تيمية- أو فى الثناء عليه, ولم يعقب عليها بشى فهى صالحة عنده.
قال الكوثرى
بعد ايراده هذا النص: ( فليعتبر بذلك من يظن أن ابن حجر العسقلانى فى صف المثنين
على امامته- يعنى ابن تيمية- على الاطلاق,
وهذا كلام ابن حجر فيه مع أنه لم يطلع على جميع مخازيه...).
أما فيما
يتعلق بنسبة ابن تيمية الى التجسيم,فقد ذكر ابن بطوطة فى رحلته ما يعزز تلك النسبة
اليه, فقال (( وكنت اذ ذاك بدمشق فحضرته- يعنى ابن تيمية- يوم الجمعة وهو يعظ
الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه, أن قال: ان الله ينزل من
السماء الدنيا كنزولى هذا ونزل درجة من درج المنبر...)). ص110هذا
وقد أفردت ابن تيمية ببحث خاص – لم يكتمل بعد-, تناولت فيه بعضا من أقواله, وبعض أقوال
أهل العلم فى الرد عليه قديما وحديثا, سميته (( تعرف البرية بحال ابن تيمية )).
ومن جملة تطرفهم ماذكره ابن باز فى كتابه-
التحقيق والايضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة- قال: (( تنبيه: ليست زيارة قبر
النبى واجبة ولا شرطا فى الحج كما يظنه بعض العامة وأشباههم- وليت شعرى من هم- بل
هى مستحبة فى من زار مسجد الرسول أو كان قريبا منه أما البعيد عن المدينة فليس له
شد الرحل لقصد زيارة القبر, ولكن يسن له شد الرحل لقصد المسجد الشريف, ودخلت
الزيارة لقبره عليه السلام وقبر صاحبيه تبعا لزيارة مسجده وذلك لما ثبت فى
الصحيحين أن النبى قال: (( لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام
ومسجدى هذا والمسجد الأقصى... وقد حذر من شد الرحل لغير المساجد الثلاثة وقال: (
لا تتخذوا قبرى عيدا)... والقول بشرعية شد الرحال لقبره يفضى الى اتخاذه عيدا,
ووقوع المحظور الذى خافه النبى من الغلو والاطراء- فاذا كان ابن باز قد أجاز زيارة
قبر النبى بعد شد الرحل الى المسجد, الا يتحقق المحظور الذى خافه النبى بعد, لأن
غاية الأمر وصولك الى قبر النبى وفى كلتا الحالتين وصلته, شددت الرحل أم لم تشده -
ثم قال... واليك ايها القارى شيئ من الاحاديث الموضوعة لتعرفها وتحذر الأغترار بها
- حكم عليها بالوضع مع أنه سيورد عن ابن حجر القول بضعفها-
الأول: ( من حج
ولم يزرنى فقد جفانى) ثم ساق عددا منها, قال: ( فهذه الاحاديث وأشباهها لم يثبت
منها شى عن النبى. قال الحافظ ابن حجر فى التلخيص: بعد ما ذكر أكثر هذه الروايات-
طرق هذه الأحاديث كلها ضعيفة. وقال الحافظ العقيلى لا يصح فى هذا الباب شى. وجزم
شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله, ان هذه الاحاديث كلها موضوعة. وحسبك به علما
وحفظا واطلاعا )). فقلب أخى كفيك حيرة وتعجبا! كيف قدم ابن باز ابن تيمية على ابن
حجر وأنزل عليه من المدح والأطراء ماترى.
ثم جاء ابن باز
فى الفصل التالى- فصل استحباب زيارة مسجد قباء والبقيع- فقال: ( ويستحب لزائر
المدينة أن يزور مسجد قباء ويصلى فيه لما فى الصحيحين من حديث ابن عمر قال: كان
النبى يزور مسجد قباء راكبا وماشيا ويصلى فيه ركعتين). اقول فهل فهم ابن باز من
قول ابن عمر- راكبا- غير شد الرحال وهل الركوب يكون بغيره؟ ويقول ابن باز ان النبى حذر من شد الرحال لغير
المساجد الثلاثة وهاهو النبى بمفهوم الرواية التى نقلها ابن باز يشد الرحل الى
البقيع, والا فقل لى ماذا تفهم من قول ابن عمر- راكبا- يخبر عن فعل الرسول . نعم أبى الله الا خذلان
الرجل.
جاء فى فتح
البارى للحافظ ابن حجر ( باب من اتى مسجد قباء كل سبت)
قال: ( ومن فضائل
مسجد قباء مارواه عمر ابن شبة فى (( أخبار المدينة )) بأسناد صحيح عن سعد بن أبى
وقاص قال: ( لان اصلى فى مسجد قباء ركعتين أحب الى من أن آتى بيت المقدس مرتين, لو
يعلمون مافى قباء لضربوا اليه أكباد الابل). فأنظر الى قول ابن عمر لضربوا اليه
أكباد الابل مع قول ابن حجر اسناده صحيح. لتعلم ان الوهابية يستندون الى الوهم ولا
يبالون باقوال أهل العلم, مادام القول لا يصادف هواهم, أو انه يوهن كيدهم.
قال صاحب كتاب
فقه السيرة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطى : ((اعلم ان زيارة مسجده وقبره من أعظم
القربات الى الله عز وجل, أجمع على ذلك جماهير المسلمين فى كل عصر الى يومنا هذا,
لم يخالف فى ذلك الا ابن تيمية غفر الله له. فقد ذهب الى أن زيارة قبره غير
مشروعة. ودليل ماأجمع عليه المسلمون من دونه عدة وجوه:-
الوجه الاول:
مشروعية زيارة القبور عموما واستحبابها, وقد ذكرنا فى ماسبق ان النبى كان يذهب كل
ليلة الى البقيع يسلم على أهله ويدعو ويستغفر لهم. ثبت ذلك فى الصحيح. والأحاديث
الثابتة فى تفصيل ذلك كثيرة. ومعلوم ان قبر رسول الله داخل فى عموم القبور فيسرى
عليه حكمها.
الوجه الثانى:
ماثبت من اجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على زيارة قبره والسلام عليه كلما
مروا على الروضة الشريفة, روى ذلك الأئمة الأعلام وجماهير العلماء بما فيهم ابن
تيمية رحمه الله.
الوجه الثالث:
ماثبت من زيارة كثير من الصحابة قبره منهم بلال رضى الله عنه رواه ابن عساكر بسند
جيد, وابن عمر فيما رواه مالك فى الموطأ وأبو أيوب فيما رواه أحمد, دون أن يؤثر
عنهم أو عن أحد منهم اى استنكار أو نقد لذلك.
الوجه الرابع:
مارواه أحمد رضى الله عنه بسند صحيح أن النبى لما خرج يودع معاذ بن جبل الى اليمن
قال له: يامعاذ أنك عسى أن لا تلقانى بعد عامى هذا, ولعلك أن تمر بمسجدى هذا
وقبرى, فكلمة (( لعل )) تأتى فى أعم الأحوال للرجاء, واذا دخلت (( ان )) على خبرها
تمخضت للعرض والرجاء. فالجملة تنطوى بصريح البيان على توصية معاذ بأن يعرج عند رجوعه
الى المدينة على مسجده (ص) وقبره ليسلم عليه.
اذا تبين
هذا, فاعلم أنه لا وجه لما أنفرد به ابن تيمية رحمه الله من دفع هذه الأوجه كلها
فى غير مادافع والقول بأن زيارة قبره (ص) غير مشروع )). 474
- 475 انتهى
وغاية مااعتمده ابن تيمية فى دفع مااعتمده غيره
من العلماء, ودندن به من لف لفه, كابن عثيمين القائل: (.. فقبر النبى لا تشد
الرحال اليه..) المجموع الثمين لابن عثيمين 1\96
قوله صلى الله عليه وسلم(( لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد, المسجد الحرام
ومسجدى هذا والمسجد الأقصى )).
وحتى تعلم الأنا فى هذه الفئة,وانفرادها بالراى
الشاذ دون أهل العلم . أنقل اليك مذهب رجلين من الراسخين فى العلم, تحدث الأول عن
شد الرحال, وتناول الثانى زيارة قبر سيد الكونين, وأنها من أنجع المساعى.
الأول ابن
حجرليحدثنا عن مفهوم حديثه صلى الله عليه وسلم ( لا تشد الرحال ). قال الحافظ ابن
حجر العسقلانى فى شرحه لحديث ( لا تشد الرحال ): (( قال الكرمانى: وقع فى هذه
المسألة فى عصرنا فى البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصنف فيها رسائل من الطرفين,
قلت:- والقائل ابن حجر- يشير الى مارد به
الشيخ تقى الدين السبكى وغيره على الشيخ تقى الدين ابن تيمية, وماانتصر به الحافظ
شمس الدين بن عبد الهادى وغيره لابن تيمية, وهى مشهورة فى بلادنا. والحاصل أنهم
ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل الى زيارة قبر سيدنا رسول الله وأنكرنا صورة
ذلك, وفى شرح ذلك من الطرفين طول, وهى من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية, ومن
جملة مااستدل به على دفع ماادعاه غيره من الأجماع على مشروعية زيارة قبر النبى
مانقل عن مالك أنه كره أن يقال: زرت قبر النبى.
وقد أجاب
عنه المحققون من أصحابه بأنه كره اللفظ أدبا لاأصل الزيارة فانها من أفضل الأعمال,
وأجل القربات الموصلة الى ذى الجلال, وأن مشروعيتها محل أجماع بلا نزاع والله
الهادى الى الصواب.
قال بعض المحققين: قوله: (( الا الى ثلاثة مساجد)) المستثنى منه محذوف فاما
أن يقدر عاما يصير: لا تشد الرحال الى مكان فى أى أمر كان الا الى الثلاثة, أو أخص
من ذلك. لا سبيل الى الأول لا فضائه الى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب
العلم وغيرها, فتعين الثانى, والأولى أن يقدر ماهو أكثر مناسبة وهو: لا تشد الرحال
الى مسجد للصلاة فيه الا الى ثلاثة, فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال الى زيارة
القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين. والله أعلم.
وقال
السبكى الكبير: ليس فى الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال اليها غير البقاع الثلاث , ومرادى بالفضل ماشهد
الشرع باعتباره ورتب عليه حكما شرعيا, وأما غيرها من البلاد فلا تشد اليها لذاتها,
بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات والمباحات. قال: وقد التبس ذلك
على بعضهم فزعم أن شد الرحال الى الزيارة لمن فى غير الثلاثة داخل فى المنع وهو
خطأ لأن الأستثناء انما يكون من جنس المستثنى منه, فمعنى الحديث: لا تشد الرحال
الى مسجد من المساجد, أو, الى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان الا الثلاثة
المذكورة, وشد الرحال الى زيارة أو طلب علم ليس الى المكان بل الى من فى ذلك
المكان. والله أعلم... ).
الثانى الامام
النووى ليجلى لنا ماهية زيارة الحبيب, قال فى الايضاح( الباب السادس فى زيارة قبر
مولانا وسيدنا رسول الله وشرف وكرم.. الخ)
اعلم أن لمدينة
رسول الله أسماء جمة, ( وعدها وذكر سبب تسميتها) , ثم قال: وفى الباب مسائل,
الأولى: اذا أنصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا الى مدينة رسول الله لزيارة
تربته فانها من أعظم القربات وأنجح المساعى.
وقد روى
البزار والدارقطنى باسنادهما عن أبن عمر رضى الله عنهما قال: قال رسول الله: (( من
زار قبرى وجبت له شفاعتى )) الى أن قال: ثم يأتى القبر الشريف فيستدبر القبلة
ويستقبل جدار القبر ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع, ويقف ناظرا الى أسفل
مايستقبله من جدار القبر, غاض الطرف فى مقام الهيبة والاجلال فارغ القلب من علائق
الدنيا مستحضرا فى قلبه جلال موقفه ومنزلتة من هو بحضرته, ثم يسلم على رسول الله
ولا يرفع صوته, بل يقتصد فيقول: السلام عليك يارسول الله, ثم ان كان أحد قد أوصاه
بالسلام على رسول الله فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان, ثم يتأخر
الى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على عمر رضى الله عنه فيقول: السلام عليك ياعمر, ثم
يرجع الى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله ويتوسل به فى حق نفسه ويتشفع به الى
ربه. ثم ذكر قصة الاعرابى الذى جاء الى قبر النبى , وقد سبق ذكرها. ثم قال: ويستحب
أن يزور قبور الشهداء بأحد, الى أن قال: واذا أراد السفر من المدينة والرجوع الى
وطنه أو غيره استحب أن يودع المسجد بركعتين ويدعو بما أحب ويأتى القبر ويعيد نحو
السلام والدعاء..).
(( ولكم
اتهمنا واتهم كثير من المسلمين من أهل السنة والجماعة, بالابتداع والمروق, لأننا
ذهبنا الى ماذهب اليه الجمهور من علماء السلف وغيرهم, من أنه لا ضير فى أن يعزم
الرجل على زيارة كل من قبر المصطفى ومسجده! فهذا الذى ذهب اليه الجمهور, وفى
مقدمتهم الحنابلة, باطل يجب اجتنابه, لماذا؟ لأن رأى جماعة ( السلفية) على خلافه.
فمهما
كان فى جماعة المسلمين من يخالفون هذا الرأى, ومهما كان معتصم ابن تيمية الذى
استند اليه, ضعيفا بل واهيا فى مقياس اللغة والشرع, فانه يظل مع ذلك هو الرأى
الحق, ويظل الرأى المقابل مع ذلك هو الرأى الباطل. لأن ( السلفية) أمضت قرارها
الذى لا عودة فيه, ألا وهو أن القصد الى زيارة قبر رسول الله(ص) بدعة.
وهكذا, يصبح الأختلاف فى هذه المسألة, بعد التى قبلها- يعنى بها الشيخ
البوطى الدعاء بعد الصلاة تجد ذلك فى كتابه السلفية- بمثابة خنجر يمزق جماعة المسلمين الواحدة
ويشطرها الى شطرين: ( السلفية) التى هى وحدها عرفت الحق فالتزمت به. و( البدعية)
التى هى المارقة عن الحق والتائهة فى أودية الضلال. وتتأمل فى عصر السلف, وتتسائل :
من منهم الذى استعمل هذا الخنجر فمزق به شمل المسلمين وفرق جماعتهم, فلا تجد منهم
واحدا أقدم على مثل ذلك)) . البوطى أئمة السلفية ص239.
ان
الحنابلة الذين يزعم أهل الهوس نسبتهم اليهم, ذهبوا الى ماذهب اليه الجمهور- حسبما
ذكر آنفا- وذلك تجده جليا فى كتبهم.
قال:
الامام أبو محمد بن قدامة: ويستحب زيارة قبر النبى لما روى الدارقطنى باسناده عن
أبن عمر قال: قال رسول الله: (( من حج فزار قبرى بعد وفاتى فكأنما زارنى فى حياتى
)) . وفى رواية: (( من زار قبرى وجبت له شفاعتى )).
رواه
باللفظ الأول سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن الليث عن مجاهد عن ابن عمر, وقال أحمد
فى رواية عبدالله عن زيد بن قسيط عن أبى هريرة أن النبى قال: (( مامن أحد يسلم على
عند قبرى الا رد الله على روحى حتى أرد عليه السلام ))... الخ كلامه, ثم ذكر قصة
العتبى مع الاعرابى..
ان الذى
يقف على مؤلفات الحنابلة فى المناسك, أو على نقول العلماء عنهم, يدرك أن الوهابية,
لا سواد لهم من أهل العلم يركنون اليهم, أويتباهون بهم كالآخرين. فهم نبتة لبذرة
غير صالحة تفوح منها رائحة نتنة, كلما هبت على المحبين ردتها عنهم رياح
الصبا.
هل تدرون يا دعاة الفرقة وتمزيق الأمة ما رياح
الصبا؟!
هى التى يشدو
بها أهل المحبة فيقولون: رياح الصبا هبى لقبر محمد * وبثى علينا الطيب من ذلك القبر, معانى يفهمها
اللبيب ويجهلها أهل الغفلة والغرة بالله. وماذا علينا ان غابت عنهم, ما داموا فى
غيهم سامدين.
5- التبرك
ان من
القضايا البالغة الأهمية كذلك , والتى لها ارتباط بالزيارة والتوسل موضوع التبرك,
وهو مما أنكرته الوهابية, وحتى لا نحوم فى هذا المناخ- أعنى التبرك- نتناول من المنقول
الشى القليل لنؤكد به جواز التبرك, لأنه ليس من أهدافنا أن نتوسع فى الأستدلال على
صحة مذهب القوم وبيان جهادهم, ورد خصومهم بالحجة, وان كان بالامكان فعل ذلك كله,
فقط غايتنا أن نخلص الى حقيقة تنادى فى العالمين, أن الفكر الوهابى, منبع التطرف.
إن التبرك بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم
سنة مرضية عمل بها أصحاب رسول الله, واقتفى آثارهم في ذلك المحبون لرسول الله جيلا بعد جيل بلا نكير.
لأن العقلاء
يعلمون أن سيد الخلق محمدا, هو صفوة خلق الله, وأطهر خلق الله, وأنه الرحمة
المهداة. فكان حري بهم أن يجدوا البركة فيه وفى آثاره, وما ذاك إلا لعظيم محبتهم
له .
وفى هذه
المساحة ستجد بعضا من الوارد الصحيح على تبرك الصحابة برسولهم صلى الله عليه وسلم
وحرصهم على ذلك, وخلق الظروف التي تعين على ذلك.
كما فعل سيدنا
سواد بن غزية يوم سوى النبي (ص) الصفوف يوم بدر , يعدلها بقضيب في يده وسواد خارج
عن الصف, فلمسه النبي بالقضيب فى بطنه وقال له استقم ياسواد, فقال سواد أوجعتنى
يارسول الله, وقد بعثت بالحق, والعدل فأقدنى من نفسك فكشف رسول الله (ص)عن بطنه
وقال استقد ياسواد فأعتنقه سواد وقبل بطنه, وقال ما حملك على ذلك؟ فقال يارسول
الله قد حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك, فدعا له
وليعلم القارئ أن
هذا الحال الرائع, والصنيع المحير, هو وأمثاله من الحوادث, كان سببا فى نصرة هذا
الدين, وإعلاء كلمته, لان الواحد منهم كان ينطلق من جوا نية تعرف لرسول الله (ص)
قدره, فاصبح مر كوزا فى بواطنهم ما تهون به الشدائد, انه حب رسول الله (ص). فانظر
الى حال طلحة غسيل الملائكة ليلة عرسه, وقد سمع منادى رسول الله, يا خيل الله
اركبى فخرج مسرعا ليجيب المنادى تاركا غسل الجنابة, فاستشهد وشهد له رسول الله (ص)
أن الملائكة تكفلت بغسله.
أخرج البخاري فى
كتاب الشروط- باب الشروط فى الجهاد... (
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي (ص)بعينه قال: فوالله ماتنخم رسول الله e
نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره, واذا
توضا كادوا يقتتلون على وضوئه, واذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده, وما يحدون اليه
النظر تعظيما له, فرجع عروة الى أصحابه, فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك
ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي, والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب
محمد محمدا, والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده,
واذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده, ولايحدون إليه النظر تعظيما له.)
قال ابن حجر فى
شرحه: ( وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة, ولعل
الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا فى ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من
فرارهم, وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم
كيف يظن به أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه بل هم أشد اغتباطا به وبدينه وبنصره من
القبائل التى يراعى بعضها بعضا بمجرد الرحم, فيستفاد منه جواز التوصل الى المقصود
بكل طريق سائغ).
وقد ذكر الحافظ
ابن حجر فى كتابه- الإصابة فى تمييز الصحابة- فى ترجمة عبد الله بن الزبير( وأخرج
أبو يعلى والبيهقى فى الدلائل من طريق هنيد بن القاسم سمعت عامر بن عبد الله بن
الزبير أن أباه حدثه أنه أتى النبي (ص) وهو يحتجم فلما فرغ قال: ياعبدالله اذهب
بهذا الدم فأهر قه حيث لا يراك أحد فلما برز عن رسول الله (ص) عمد إلى الدم فشربه
فلما رجع قال: ياعبدالله ما صنعت بالدم قال جعلته فى أخفى مكان علمت انه يخفى عن
الناس قال لعلك شربته قال نعم قال ولم شربت الدم ويل للناس منك وويل لك من الناس.
قال أبو موسى قال أبو عاصم فكانوا يرون أن القوة التى به من ذلك الدم, وله شواهد
من طريق كيسان مولى بن الزبير عن سلمان الفارسي رويناه فى جزء… وزاد فى آخره لا
تمسك النار إلا تحلة القسم).
فانظر رحمك الله
إلى هؤلاء الناس الذين أبوا على الأرض هذه الفضلات الطاهرة الزكية, لان بطونهم
أولى بها.
أخرج البخاري فى
كتاب الوضوء- باب استعمال فضل وضوء الناس: ( عن أبى جحيفة يقول خرج علينا رسول
الله (ص) بالهاجرة فأتى بوضوء فتوضا , فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون
به, فصلى النبي(ص) الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة- أى عصا- وقال أبو
موسى دعا النبي بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه ثم قال لهما اشربا منه
وافرغا على وجوهكما ونحوركما ).
قال الحافظ ابن حجر
فى فتح الباري شرح البخاري : قوله ( ومج فيه) أي صب ما تناوله من الماء فى الإناء,
والغرض بذلك إيجاد البركة بريقه المبارك.
قال ابن حجر فى
شرح البخاري- كتاب الصلاة- باب سترة الإمام سترة من خلفه- عند شرحه لحديث العنزة:
ان النبي صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة الظهر ركعتين والعصر ركعتين... وفى
الحديث من الفوائد التماس البركة مما لامسه الصالحون... وفيه تعظيم الصحابة للنبي (ص)
وجاء فى البخاري –
كتاب الوضوء- باب صب النبي (ص) وضوءه على المغمى-: ( عن محمد بن المنكدر قال: سمعت
جابرا يقول: جاء رسول الله (ص) يعودنى وأنا مريض لا اعقل , فتوضأ وصب على من
وضوئه, فعقلت...). وفى البخاري كذلك- كتاب اللباس- باب القبة الحمراء من أدم: ( عن
عون بن أبى جحيفة عن أبيه قال: (( رأيت النبي (ص) وهو فى قبة حمراء من أدم, ورأيت
بلالا أخذ وضوء النبي (ص) والناس يبتدرون الوضوء فمن أصاب منه شيئا تمسح به, ومن
لم يصب منه شيئا أخذ من بلل يد صاحبه)).
فأنت ترى أن النبي (ص) يفعل الفعل من صب فضلة
وضوءه على المريض, فيشفى ولايرى فى فعله باسا, ولاترى حوارا بعد صب الماء, وتمام
الشفاء بين رسول الله (ص) وجابر محذرا من أن يعتقد فى فعل رسول الله (ص) غير اتخاذ
الأسباب, وان الفاعل الحق للشفاء هو الله, نعم لم يدر مثل ذلك الحوار بينهما, لأنه
مر كوز فى جوانيته- أعنى جابرا- ان الشفاء بإذن الله, وهذا لا يحتاج حوارا.
والنبي (ص) يعلم أن
أصحابه يبتدرون وضوءه يتمسحون به, فلا ينهاهم, بل يؤكد لهم بحرص منه أن يحافظوا
على ذلك, وتجد ذلك واضحا فى توزيع طلحة شعره الشريف بأمر منه وذلك فيما رواه مسلم
من طريق ابن عيينة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين بلفظ (( لما رمى الجمرة ونحر
نسكه- يعنى النبي e- ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة
فأعطاه إياه ثم ناوله للشق الأيسر فحلقه فأعطاه أبا طلحة فقال أقسمه بين الناس )).
ومما لا شك فيه أن
الصحابة كانوا على يقين كامل بقيمة أفعالهم هذه, فحرصوا على امتلاك كل ما له علاقة
برسول الله (ص).
فهذه السيدة
أسماء تحتفظ بجبة رسول الله (ص) ليستشفي بها المرضى, فقد جاء فى صحيح مسلم- كتاب
اللباس والزينة- باب تحريم إناء الذهب... عن أسماء بنت أبى بكر... فقالت: ( هذه
جبة رسول الله (ص). فأخرجت الى جبة طيالسة كسروا نية. لها لبنة ديباج. وفرجيها
مكفوفين بالديباج. فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت قبضتها. وكان
النبي (ص)يلبسها فنحن نغسلها للمرضى يستشفي بها ).
قال الإمام النووي
فى شرحه: وفى هذا الحديث دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم.
ولا يفوتنا أن
نسعد القارئ, بما رواه البخاري فى كتاب اللباس – باب ما يذكر من الشيب- عن أم
المؤمنين أم سلمة : ( حدثنا إسرائيل عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال أرسلني أهلي
إلى أم سلمة زوج النبي (ص)بقدح من ماء وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصة فيه شعر من
شعر النبي (ص) وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شي بعث إليها مخضبة فاطلعت فى الجلجل
فرأيت شعرات حمرا ) . قال ابن حجر بعد تحقيق: ( والمراد انه كان من اشتكى أرسل
إناء الى أم سلمة فتجعل فيه تلك الشعرات وتغسلها فيه وتعيده فيشربه صاحب الإناء أو
يغتسل به استشفاء بها فيحصل له بركتها).
هذا وقد روى
البخاري فى –كتاب الاشربة- باب الشرب من قدح النبي (ص). حديثا رواه مسلم كذلك فى –
كتاب الاشربة- قال النووي فى شرح مسلم عنه قوله: ( فاخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا
منه ثم قال استوهبه بعد ذلك عمر بن عبد العزيز فوهبه له ) يعنى القدح الذى شرب منه
رسول الله هذا فيه التبرك بآثار النبي (ص) وما مسه أو لبسه أو كان منه فيه سبب,
وهذا نحو ما اجمعوا عليه أطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة فى مصلى رسول الله
(ص) فى الروضة الكريمة, ودخول الغار الذى دخله وغير ذلك, ومن هذه إعطاؤه اباطلحة
شعره ليقسمه بين الناس, وإعطاؤه (ص) حقوه لتكفن فيه بنته رضى الله عنها, وجعله
الجريدتين على القبرين, وجمعت بنت ملحان عرقه (ص), وتمسحوا بوضوئه (ص), ودلكوا
وجوههم بنخامته (ص)وأشباه هذه كثيرة مشهورة فى الصحيح وكل ذلك واضح لاشك فيه).
وقد روى الامام
مسلم فى كتاب الفضائل- باب قربه من الناس وتبركهم به وتواضعه لهم. عن انس بن مالك,
قال كان رسول الله (ص) اذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء, فما
يؤتى باناء الا غمس يده فيها. فربما جاءوه فى الغداة الباردة فيغمس يده فيها.
وعن انس قال:
لقد رايت رسول الله (ص) والحلاق يحلقه, وأطاف به أصحابه, فما يريدون ان تقع شعرة
الا فى يد رجل.
وعن انس: ان
امراة كان فى عقلها شى فقالت: يارسول الله ان لى اليك حاجة. فقال ( يا ام فلان انظرى
اى السكك شئت أقضى لك حاجتك) فخلا معها فى بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها.
قال النووى فى
الشرح: قوله: (كان رسول الله (ص)إذا صلى
الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه فربما
جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها).
وفي الرواية الأخرى: (رأيت رسول الله (ص)والحلاق يحلقه وأطاف
به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل).
وفي الآخر: (أن امرأة كانت في عقلها شيء فقالت يا رسول الله
إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك فخلا
معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها) في هذه الأحاديث بيان بروزه صلى الله عليه
وسلم للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله
وحركاته فيقتدى بها، وهكذا ينبغي لولاة الأمور، وفيها صبره صلى الله عليه وسلم على
المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين وإجابته من سأله حاجة أو تبريكاً بمس يده وإدخالها
في الماء كما ذكروا، وفيه التبرك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من
التبرك بآثاره eوتبركهم بإدخال يده
الكريمة في الآنية وتبركهم بشعره الكريم وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلا في يد
رجل سبق إليه، وبيان تواضعه بوقوفه مع المرأة الضعيفة. قوله: (خلا معها في بعض
الطرق) أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ولم يكن ذلك من
الخلوة بالأجنبية فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها لكن لا يسمعون
كلامها لأن مسألتها مما لا يظهره والله أعلم.
قال العلامة محمد
طاهر الكردى المكى فى كتابه- تبرك الصحابة بآثاره-: ( وجاء فى شرح كتاب (( زاد
المسلم )) بصحيفة 312 من الجزء الرابع مانصه, قال صاحب العقد الفريد فى شان
وفاة معاوية رضى الله تعالى عنه لما ثقل
معاوية ويزيد غائب. اقبل يزيد فوجد عثمان بن محمد بن أبى سفيان جالسا فاخذ بيده
ودخل على معاوية وهو يجود بنفسه , فكلمه يزيد فلم يكلمه فبكى يزيد , ثم قال معاوية
أى بنى ان أعظم مااخاف الله فيه ماكنت اصنع بك, يابنى انى خرجت مع رسول الله (ص)
فكان اذا مضى لحاجته وتوضأ أصب الماء على يديه فنظر الى قميص لى قد انخرق منه
عاتقى فقال لى يامعاوية الا أكسوك قميصا قلت بلى. فكسانى قميصا لم ألبسه الا لبسة
واحدة وهو عندى, واجتز ذات يوم فأخذت جزازة شعره وقلامة أظافره فجعلت ذلك فى
قارورة, فاذا مت يابنى فأغسلنى ثم اجعل ذلك الشعر والاظافر فى عينى ومنخرى وفمى ثم
اجعل قميص رسول الله (ص) شعارا من تحت كفنى, ان نفع شى نفع هذا .
قال
الحافظ ابن حجر فى الاصابة فى ترجمة انس
بن مالك (( وروى بن السكن من طريق صفوان
بن هبيرة عن أبيه قال قال لي ثابت البناني قال لي أنس بن مالك هذه شعرة من شعر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعها تحت لساني قال فوضعتها تحت لسانه فدفن وهي تحت
لسانه )).
أقول ها نحن أخى
قد ملكناك من الأقوال, ما يزيدك يقينا, بأن التبرك مذهب أهل الحق.
فلنترك هذه الروضة
اليانعة المثمرة بحب رسول الله, ولنمض ناظرين فى كؤوس هؤلاء المتنطعين لنستبين
التطرف فيها.
6- الغلو فى فتاوى المرأة
والرفق المعدوم
فنقول ان من مظاهر الغلو فى فتاوى هؤلاء القوم
أيضا, ماتجده متعلقا ببعض أحكام المراة المسلمة, من جنوح الى التشدد, وطغيان متعمد
كأنه لا معقب لأمرهم. ولنضرب لك مثالين على ذلك!
سئل ابن عثيمين- فتاوى الشيخ ابن
عثيمين 2\778 من فتاوى مهمة لعموم الأمة ص162
سؤال: يقول السائل
اذا كانت المرأة متزوجة وزوجها لا يصلى فهل لها أن تفارقه؟
الفتوى: (( اذا
كانت المرأة متزوجة وزوجها لا يصلى أبدا لا مع الجماعة ولا مع غير الجماعة, فانه
ينفسخ نكاحها منه, ولا تكون زوجة له, ولايحل أن يستبيح منها ما يستبيح الرجل من
امراته, لأنها صارت أجنبية منه, ويجب عليها فى هذا الحال أن تذهب الى أهلها, وأن
تحاول بقدر ماتستطيع أن تتخلص من هذا الرجل الذى كفر بعد اسلامه...الى آخر
كلامه)).
هذه فتوى ابن
عثيمين أطلقها, من قبل أن يدرس حال الأسرة التى حكم على القائم بأمرها بالكفر, كما
لم يقف على الظروف التى تحيط بالزوج كأن يحك مع الزوجة ان كان زوجها لا يصلى كسلا
أم جحودا, وهذه بعض مضابط الفتوى حتى لا تخرج عجلى فيتلقفها العوام. وها أنا ذا
أسوق اليك الفتوى بضوابطها, حتى تنظر الفارق بين فتوى عالم, وفتوى متنطع.
قال الامام
النووى: صحيح مسلم- كتاب اليمان- باب بيان اطلاق اسم كافر
على من ترك الصلاة.
(( وأما
تارك الصلاة فإن كان منكراً لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام
إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة
عليه، وإن كان تركه تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس، فقد
اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى
أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حداً كالزاني المحصن ولكنه يقتل
بالسيف. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله، وبه قال عبد الله بن المبارك
وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي رضوان الله عليه. وذهب أبو حنيفة
وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه لا يكفر ولا يقتل بل
يعزر ويحبس حتى يصلي. احتج من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على
كلمة التوحيد، واحتج من قال لا يقتل بحديث. «لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث»
وليس فيه الصلاة. واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله
إلا الله دخل الجنة. من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة. ولا يلقى الله
تعال عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة». حرم الله على النار من قال: لا إله إلا
الله وغير ذلك، واحتجوا على قتله بقوله تعالى{فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا
الزكاة فخلوا سبيلهم} وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم
وأموالهم». وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة»
على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنه محمول على
المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو أن فعله فعل الكفار، والله أعلم)).
أقول ليس التنطع
فى اطلاق الكفر على تارك الصلاة, فهذا أحد الأقوال عند أهل العلم, ولكن التنطع فى
أن للفتوى وجوها أخر لا يعتد بها الوهابيون, وهذا السلوك شائع عندهم.
سئل ابن باز- فتاوى المرأة – جمع وترتيب محمد المسند ص 119 – 1414ه
س* تزوجت
رجلا وبعد الزواج طلب منى ألا أستر وجهى عن اخوانه والا طلقنى فماذا أفعل وأنا
خائفة من الطلاق؟
ج: لا يجوز
للرجل أن يفسح المجال لزوجته فى السفور للرجال, ولا يليق به أن يكون هكذا ضعيفا
ومتساهلا مع أهله حتى تكشف وجهها لاخوانه أو لأعمامه أو لزوج أخته أو لبنى عمها
ونحوهم ممن ليس محرما لها, فهذا لا يجوز, وليس لها طاعته انما الطاعة فى المعروف
بل عليها ان تتحجب وتتستر ولو (( طلقها )). فان طلقها فسوف يرزقها الله خيرا منه-
ان شاء الله- قال الله- سبحانه وتعالى-: ( وان يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) .
وروى عنه, أنه قال: (( من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه... )).
هذه فتوى
الرجل! أما كان من الواجب حفاظا على هذه الأسرة وكيانها, أن يقول ابن باز ردا على
هذه الحائرة التى تخشى الطلاق, أن فى الدين سعة, فان قوما من علماء الأمة يرون أن
وجه المرأة ليس بعورة, فقرى عينا, فأذا عرفت هذا وكشفت عن وجهك فى وجود اخوة زوجك,
فالتزمى فى وجودهم العفة, والحياء, وغض البصر, وتجنبى مثيرات الفتن, ولا حرج عليك.
أم خاف الشيخ على بضاعته أن يصيبها البوار؟
أقول اذا كان
النقاب مختافا فى وجوبه بين أهل العلم, حتى قال بعضهم (( ان النقاب لا مفروض ولا
مرفوض)). بمعنى أن المرأة تلبسه بأختيارها لأسباب تعرفها هى وليس بواجب عليها. فأن
الطلاق بأجماع أهل العلم هو أبغض الحلال الى الله , لما فيه من تدمير للأسرة,
وتشريد للأبناء. فكيف يقدم سماحة الشيخ المتفق عليه- أعنى الطلاق- وفيه الخراب,
ليدمر الأسرة, على المختلف فيه وهو النقاب-,والذى لو أخذ فيه بالراى الآخر لحفظ
الأسرة وحقق مقاصد الشرع.
ولم ينفرد ابن
باز بهذا الغلو, والتعسف فى استعمال الحق وحده, بأن وجه المراة عورة عورة, حرام
حرام, كشفه, - بلا التفات الى القول الآخر- بل شاركه فى ذلك , ابن عثيمين, وابن
جبرين.
سئل الأول: ماهو
الحجاب الشرعى؟
ج: الحجاب الشرعى هو حجب المرأة مايحرم عليها اظهاره أى
سترها مايجب عليها ستره وأولى ذلك وأوله الوجه لأنه محل الفتنة ومحل الرغبة
فالواجب على المرأة أن تستر وجهها عمن ليسوا بمحرمها وأما من زعم أن الحجاب الشرعى
هو ستر الرأس والعنق والنحر والقدم والساق والذراع, وأباح للمرأة أن تخرج وجهها
وكفيها فان هذا من أعجب مايكون من الأقوال لأنه من المعلوم أن الرغبة ومحل الفتنة
هو الوجه... ألخ. فتاوى المرأة- جمع وترتيب محمد السند- ص
183\ 184
وسئل الثانى: هل
يجوز للمرأة كشف وجهها أمام الرجال الأجانب؟
ج: لا تكشف المرأة
وجهها أمام الرجال الأجانب بل هو حرام ولا يتم التحجب الا بستر الوجه فانه مجمع
الزينة والدليل قوله تعالى: ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) أمرها أن ترخى الخمار
من الرأس الى الجيب الذى هو الفتحة على الصدر واذا تدلى من الرأس ستر الوجه... الخ.
فتاوى المرأة- جمع وترتيب محمد السند- ص187 \ 188
هذه فتاوى القوم!
فهل تقابلها فتاوى تذهب الى غير ما ذهبوا اليه؟ لنر.
تفسير
الطبرى- النور آية31 -: وقوله( ولا يبدين زينتهن) يقول تعالى ذكره ولا يظهرن للناس
ليسوا لهن بمحرم زينتهن, وهما زينتان: احداهما: ماخفى, وذلك كالخلخال والسوارين
والقرطين والقلائد. والآخرى: ماظهر منها, وذلك مختلف فى المعنى منه بهذه الآية,
فكان بعضهم يقول... ثم ذكر أقوال العلماء وأختلافهم فى – ما ظهر منها- ثم قال: (
وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب: قول من قال: عنى بذلك الوجه والكفان, يدخل فى ذلك
اذا كان كذلك: الكحل, الخاتم, والسوار, والخضاب.
وانما
قلنا- والقائل هو الامام الطبرى- ذلك أولى الأقوال فى ذلك بالتاويل, لأجماع الجميع
على أن على كل مصل أن يستر عورته فى صلاته, وأن المرأة أن تكشف وجهها وكفيها فى
صلاتها, وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها الا ماروى عن النبى أنه أباح لها
أن تبديه من ذراعها الى قدر النصف. فاذا كان ذلك من جميعهم اجماعا, كان معلوما
بذلك أن لها أن تبدى من بدنها مالم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن مالم يكن عورة
فغير حرام اظهاره. واذا كان لها اظهار ذلك, كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى
ذكره بقوله: الا ماظهر منها, لأن كل ذلك ظاهر منها ).
تفسير
النسفى: قال: ( ولا يبدين زينتهن) الزينة ماتزينت به المرأة من حلى أو كحل أو
خضاب, والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة اذ اظهار عين الزينة وهى الحلى ونحوها مباح
فالمراد بها مواقعها أو اظهارها وهى فى مواضعها لأظهار مواضعها لا لاظهار أعيانها,
ومواضعها الرأس و الأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق فهى كالاكليل
والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال ( الا ماظهر منها ) الا ما جرت
العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان , ففى سترها حرج بين فان
المرأة لا تجد من مزاولة الأشياء بيدها ومن الحاجة الى كشف وجهها خصوصا فى الشهادة
والمحاكمة والنكاح وتضطر الى المشى فى الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن).
تفسير البغوى:
قوله تعالى: ( الا ماظهر منها) , أراد به الزينة الظاهرة, اختلف أهل العلم فى هذه
الزينة الظاهرة التى استثناها الله تعالى, قال سعيد بن جبير والضحاك والأوزاعى: هو
الوجه والكفان. وقال ابن مسعود: هى الثياب بدليل قوله تعالى : ( خذوا زينتكم عند
كل مسجد ) وأراد بها الثياب وقال الحسن الوجه والثياب. وقال ابن عباس: الكحل
والخاتم والخضاب فى الكف, فما كان من الزينة الظاهرة جاز للرجل الأجنبى النظر اليه
اذا لم يخف فتنة وشهوة, فان خاف شيئا منها غض البصر وانما رخص فى هذا القدر أن
تبديه المرأة من بدنها لأنه ليس بعورة وتؤمر بكشفه فى الصلاة, وسائر بدنها عورة
يلزمها ستره. ثم قال: ( ولا يبدين زينتهن) يعنى: الزينة الخفية التى لم يبح لهن
كشفها فى الصلاة ولا للأجانب وهو ما عدا الوجه والكفين ( الا لبعولتهن ) .
تفسير
ابن كثير: ذكر ابن كثير اختلاف أهل العلم, ثم قال: ( وقال مالك عن الزهرى ( ما ظهر
منها ) الخاتم والخلخال, ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أردوا تفسير ما ظهر منها
بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور, ويستانس له بالحديث الذى رواه أبو
داود فى سننه حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكى ومؤمل بن الفضل الحرانى قالا: حدثنا
الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة أن أسماء بنت أبى بكر دخلت على النبى وعليها
ثياب رقاق فأعرض عنها وقال (( يا أسماء ان المرأة اذا بلغت المحيض لم يصلح أى يرى منها الا هذا )) وأشار الى وجهه وكفيه,
لكن قال أبو داود وأبو حتم الرازى هذا مرسل, خالد بن دريك لم يسمع من عائشة, والله
أعلم ) .
تفسير
الجلالين: ( ولا يبدين) يظهرن ( زينتهن الا ما ظهر منها) وهو الوجه والكفان فيجوز
نظره لأجنبى ان لم يخف فتنة فى أحد وجهين, والثانى: يحرم,- أى النظر الى الوجه
والكفين لا ابدائهن كما هو ظاهر- لأنه مظنة الفتنة ورجح حسما للباب ( وليضربن
بخمرهن على جيوبهن ) أى يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع ( ولا يبدين
زينتهن ) الخفية وهى ما عدا الوجه والكفين ( الا لبعولتهن ) .
فاذا عرفت
هذا ولا اخالك جهلته, فاعلم أن هؤلاء المتنطعين شأنهم ليس كشأن العالمين, فرفيقهم
أبدا فى كل منحى الشدة لا التيسير والتنفير لا التبشير, باينوا بذلك هدى المعصوم(ص)
القائل : ( يسروا ولا تعسروا, وبشروا ولا تنفروا) البخارى-
كتاب العلم- وأحكموا بلا رحابة الخناق على المرأة حتى أصبح بعضهن خارج نطاق
الرقابة المتعسفة, لا تبالى ماذا تلبس من اللباس, فقد ضيق عليهن الوهابية الواسعة.
فالمرأة عندهم لا تلبس الا السواد! فأذا سألتهم هل ألزم الاسلام المسلمة الا تقرب
من الألوان الا السواد؟ أم أن الاسلام ترك لها حرية الاختيار, ما دام المختار من
الثياب هادى اللون فضفاضا لا يشف ولا يظهر ماتحته من جسد؟ انتظرت الجواب ولا مجيب.
والمرأة عندهم أيضا لا يحق لها أن تقود سيارة لم؟ لأنها فتنة, فاذا سئلت ما شأن
الفتنة بقيادة السيارة؟ فلن تجد جوابا شافيا.
اذا هل الأقرب
للحرية والأسلم الى ضمان عدم انقلاب المرأة على الدين تربيتها منذ صغرها على
الفضيلة والعفة وكرم النفس والأباء, منطلقين من هدى الحبيب صلى الله عليه وسلم, أم
نكبلها بالقيود؟
نعم
القيود التى أفضت بهم اليوم الى أن ينادوا بزواج المسيار, لعلاج مشكلهم الأجتماعى
المتمثل فى العنوسة قالوا: (( زواج المسيار زواج مكتمل الشروط ولكنه خلاف الأولى
)). فاذا سألتهم لم خلاف الأولى؟ يجيبون لأن المرأة تتنازل فيه عن بعض حقوقها
كالسكن والنفقة, وغاية ما فيه – أعنى زواج المسيار- أن تجد المرأة رجلا تسكن اليه.
ولو أنهم تركوا المراة تنطلق فى الحياة بضوابط الشرع- وماأكثرها- لما ألجأتهم
الحاجة الى زواج المسيار, والذى لا يخلو من نواقص ستظهر بعد التطبيق.
وان الخير
كل الخير أن نغرس فى المرأة حب الحبيب صلى الله عليه وسلم, ونجعله مركوزا فى
جوانيتها, لأن من أحب رسول الله سهلت عليه الطاعة – ان المحب لمن يحب مطيع- ولا
يكون ذلك الا بعرض شمائله العليا, وانسانيته السمحاء, فنسقيها لها فتستسيغها كما
الماء البارد عند الظمأ.
ونهمس فى اذنها معرفين شاكرين, معززين هذا الحب فيها لرسول الله بواقع دونه
التاريخ, أن أول من أسلم من الرجال
والنساء, امراة هى السيدة خديجة, وأن أول من استشهد فى سبيل الله, من الرجال
والنساء , امراة هى السيدة سمية ام عمار بن ياسر. والذى عرفنا من سيرة السيدتين,
يخبرنا أنهما حملا الحب كله لله ورسوله (ص), فهون هذا الحب على الاولى شدائد واجهت
الدعوة فى مهدها, فكانت نعم العون لرسول الله(ص), اليست هى القائلة لرسول الله(ص)
فيما روى البخارى عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ عن عائشةَ أمِّ المُؤمنينَ أنَّها
قالتْ: أَوَّلُ مابُدِىءَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منَ الوَحْيِ
الرُّؤيا الصالحةُ في النَّومِ، فكانَ لايَرى رُؤيا إلا جاءتْ مِثلَ فَلَقِ
الصُّبْح. ثُمَّ حُبِّبَ إليهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلو بِغارِ حِراءٍ
فَيَتَحَنَّثُ فيهِ ـ وهو التَّعَبُّدُ ـ الليالي ذواتِ العدَدِ، قَبلَ أن يَنزِعَ
إلى أهلهِ ويتزوَّدُ لِذلكَ، ثم يرْجِعُ إلى خَدِيجةَ فيَتَزَوَّدُ لمثلِها، حتَّى
جاءهُ الحَق وهوَ في غارِ حِراءٍ، فجاءهُ المَلَكُ فقال: اقْرَأْ. قالَ: ما أنا بِقارىء.
قال: فأخذَني فغَطَّني حتى بلغَ منِّي الْجَهْدَ، ثمَّ أرْسَلَني فقال: اقْرَأْ.
قلتُ: ما أنا بقارىءٍ. فأخَذَني فغَطَّني الثانيةَ حتى بلغَ منِّي الْجَهْدَ، ثمَّ
أَرسَلَني فقال: اقْرَأْ فقلت: ما أنا بقارىءٍ. فأخَذَني فغَطَّني الثالثةَ، ثمَّ
أَرسَلَنِي فقال: {اقرأ بِاسْم رَبِّكَ الذي خَلَقَ، خلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَق.
اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكرَمُ} فرجعَ بها رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزْجُفُ
فُؤادُهُ، فدخلَ على خَدِيجةَ بنتِ خُوَيلِدٍ رضِيَ اللهُ عنها فقال: زَمِّلوني
زمِّلوني. فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهبَ عنه الرَّوعُ، فقال لخديجةَ وأخبرها الخبرَ:
لقد خَشِيتُ على نَفْسِي. فقالت خَديجةُ: كَلاّ واللهِ ما يُخْزيكَ اللهُ أبداً،
إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتحملُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدومَ، وتَقْري
الضَّيْفَ، وتُعينُ على نوائبِ الحَقّ. فانطَلَقَتْ به خديجةُ حتى أتتْ بهِ ورقةَ
بنَ نوْفَل بنِ أسدِ بنِ عبدِ العُزَّى ـ ابنَ عَمِّ خدِيجة ـ وكانَ امْرَءاً
تَنَصَّرَ في الجاهِليَّةِ، وكانَ يَكتُبُ الكِتابَ العِبْرانيَّ، فيكتُبُ منَ
الإنجيلِ بالعِبْرانيَّةِ ماشاءَ اللهُ أن يَكتُبَ، وكانَ شيخاً كبيراً قد عَمِيَ،
فقالتْ له خَديجةُ: ياابنَ عَمِّ، اسْمعْ مِن ابنِ أخيكَ. فقال لهُ وَرَقَةُ: يا
ابنَ أخي ماذا ترَى؟ فأخبرَهُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خبرَ مارأى. فقال
له ورَقَةُ: هذا النامُوسُ الذي نَزَّلَ اللهُ على مُوسى، يالَيْتني فيها جَذَعٌ،
لَيْتني أكونُ حَيّاً إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُك. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه
وسلم: أوَ مُخْرِجيَّ هُمْ؟ قال: نَعم، لمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ ماجِئتَ
بهِ إلآّ عُودِي، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ
أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤزَّراً. ثمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وفَتَرَ
الوَحْيُ )). هذه هى السيدة خديجة فلا يحتاج حالها الى بيان يتضح به مكنون حبها
لرسول الله(ص) ,حتى أنه(ص) (( قال لها يوما ياخديجة هذا جبريل يقرئك السلام من
ربك)). أما الثانية ام عمار فقد قال ابن اسحاق: (( وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار
بن ياسر, وبأبيه وأمه- وكانوا أهل بيت اسلام – اذا حميت الظهيرة, يعذبونهم برمضاء
مكة فيمر بهم رسول الله (ص) فيقول, فيما بلغنى: صبرا آل ياسر, موعدكم الجنة. فاما
أمه فقتلوها, وهى تأبى الا الاسلام)).
وهل نجانب
الصواب لو ذكرنا لها جانبا من مشاركة المرأة الأولى فى نشأة الدولة الاسلامية, والدور
البارز لها فى كل المشاهد, وأنها لم تكن يوما, ولم يحب لها الاسلام ذلك ,أن تكون
مهجورة منبوذة متروكة. جاء فى السيرة أن عدة أصحاب بيعة العقبة الثانية: (( كانوا ثلاثة وسبعين
رجلا وامرأتين, وهما أم عمارة وهى نسيبة بنت كعب شهدت بيعة العقبة وبيعة الرضوان,
وشهدت يوم اليمامة, وباشرت القتال بنفسها, وشاركت ابنها عبدالله فى قتل مسيلمة,
فقطعت يدها, وجرحت اثنا عشر جرحا, ثم عاشت بعد ذلك دهرا, وكان الناس يأتونها
بمرضاهم, لتستشفى لهم, فتمسح بيدها الشلاء على العليل, وتدعو له, فقل ما مسحت
بيدها ذا عاهة الا برىء. والأخرى: أسماء بنت عمرو أم منيع, وقد رفع فى نسبها ونسب
الأخرى ابن اسحاق, ويروى أن أم عمارة قالت لرسول الله (ص) ماأرى كل شى الا للرجال,
وما أرى للنساء شيئا, فأنزل الله تعالى: (( ان المسلمين والمسلمات)) الآية)). الروض الانف للسهيلى, ج 4- ص 201 - 202
ونقول لها
يا أمة الخير ان النبى(ص) لما أحس وهو فى مسيره
بأن أنجشة وهو يحدو والابل عليها الكريمات فخشى عليهن الضر من حدائه, الذى
يحرك الابل فتندفع فى مسيرها قال: ( رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير) قال أبو
قلابة: يعنى النساء. البخارى- باب البر والصلة.
وأن النبى-
يا من أوصانا بك خيرا- من تواضعه كانت
الأمة من اماء المسلمين تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت, يقضى لها حاجتها.
وخبروها:(( أن رسول الله كان يصلى وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله
فاذا سجد وضعها واذا قام حملها )). البخارى كتاب الصلاة
باب اذا حمل جارية صغيرة
ومن
كمال خلقه, وحسن صنيعه, كان يمازح الناس ويطيب خواطرهم, ويذهب عنهم بهذا الصنيع
مايجدون من ضيق وعنت. وقد كان للمرأة من هذا المزاح نصيب موفور, أتت عجوز الى
النبى فقالت: يا رسول الله, ادع الله أن يدخلنى الجنة, فقال: (( مداعبا )): ( يا
أم فلان ان الجنة لا تدخلها عجوز ) فولت المرأة تبكى فقال: (( أخبروها أنها لا
تدخلها وهى عجوز, ان الله تعالى يقول: (( انا أنشا ناهن انشاء فجعلناهن
أبكارا)).
وكان
النبى(ص) وفيا للمرأة, يسارع بذلك لها, ويدعو اليه. قالت عائشة: ( ماغرت على أحد
من نساء النبى ماغرت على خديجة, وما رأيتها قط, ولكن كان يكثر ذكرها- تعنى الرسول-
وربما ذبح الشاة, ثم يقطعها أعضاء, ثم يبعثها فى صدائق خديجة, فربما قلت له: كأن
لم يكن فى الدنيا امرأة الا خديجة! فيقول:
(( انها كانت وكانت, وكان لى منها الولد )). البخارى- باب تزويج النبى خديجة.
وهاهى السيدة
عائشة رضى الله عنها تعلم الناس أن يعرفوا للمرأة قدرها قالت: بئسما عدلتمونا
بالكلب والحمار(( لقد رأيتنى ورسول الله(ص) يصلى وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة
فاذا أراد أن يسجد غمز رجلى فقبضتها )). البخارى كتاب الصلاة- باب هل يغمز الرجل
أمرأته
هذه القيم
السامية لا تنتهى عند حد, لان حاملها سيدنا رسول الله(ص). بل تضاعف بها الحب,
واستوثقت بها عرى التعلق به, قال أنس بن مالك: (( لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة
حيصة, قالوا: قتل محمد, حتى كثرت الصوارخ فى ناحية المدينة, فخرجت امرأة من
الأنصار متحزمة, فاستقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها,- أى اخبرت بمقتلهم- لا
أدرى أيهم استقبلت به أولا, فلما مرت على أحدهم قالت: من هذا قالوا: أبوك, أخوك,
زوجك, ابنك! تقول: ما فعل رسول الله؟! يقولون: أمامك, حتى دفعت الى رسول الله فأخذت
بناحية ثوبه, ثم قالت: بأبى أنت وأمى يارسول الله, لا أبالى اذ سلمت من عطب)).
هذه هى المرأة التى أحبت الاسلام, لما أحبت رسول الاسلام, هذه هى المرأة
التى ملأ عليها المصطفى حياتها بشخصه الرائع, فأدهشتنا بصنيعها العجب,فان شئتم
حدثتكم عن أم سليم, ولم لا احدثكم عنها وفى الحديث عنها سلوان لنساء المسلمين. قال
أنس: (( دخل علينا النبى فقال عندنا فعرق, وجاءت أمى بقارورة. فجعلت تسلت العرق
فيها. فاستيقظ النبى فقال: ( يا أم سليم ما هذا الذى تصنعين؟) قالت: هذا عرقك
نجعله فى طيبنا. وهو أطيب الطيب)). صحيح مسلم ج 15 ص 73-
كتاب الفضائل- باب طيب عرق النبى والتبرك به.
نعم هو أطيب الطيب. ألم يقل أنس: (( ما شممت عنبرا قط ولا مسكا ولا شيئا
أطيب من ريح رسول الله)). مسلم ج 15 ص 72- كتاب الفضائل-
باب طيب رائحة النبى. وتتكرر
الرواية بأروع صورة, وبأصدق تعبير, قال أنس: (( كان النبى يدخل بيت ام سليم فينام
على فراشها وليست فيه. قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها. فأتيت فقيل لها: هذا
النبى نام فى بيتك, على فراشك. قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم,
على الفراش. ففتحت عتيدتها فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره فى قواريرها. ففزع النبى
فقال: (( ما تصنعين؟ يا أم سليم)) فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا. قال:
(( أصبت )). مسلم ج 15 ص 73- كتاب الفضائل- باب طيب عرق
النبى والتبرك به.
هذا الحب الذى
لا تسعفه الألفاظ حتى تعبر عنه, هو الذى قاد المرأة الى التضحية بالمحبوبة عندها-
أعنى روحها- فداء لرسول الله(ص). فهذه أم عمارة, نسيبة بنت كعب المازنية يوم
أحد. ذكر سعيد
بن أبى زيد الأنصارى: أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول: ( دخلت على أم
عمارة, فقلت لها: يا خالة, أخبرينى خبرك, فقالت: خرجت أول النهار وأنا أنظر ما
يصنع الناس, ومعى سقاء فيه ماء, فانتهيت الى رسول الله, وهو فى أصحابه والدولة
والريح للمسلمين فلما انهزم المسلمون- لأن الرماة خالفوا أمر رسول الله(ص),فشاء
الله أن يذيقهم طعم المخالفة رضى الله عنهم- انحزت الى رسول الله فقمت أباشر
القتال, وأذب عنه بالسيف, وأرمى عن القوس, حتى خلصت الجراح الى. قالت: فرأيت على
عاتقها جرحا أجوف له غور, فقلت: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله! لما
ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول: دلونى على محمد, فلا نجوت ان نجا, فاعترضت له
أنا ومصعب بن عمير, واناس ممن ثبت مع رسول الله فضربنى هذه الضربة فلقد ضربته على
ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان).
هذا
هو الحب الذى لا يحتاج أن يسعفه الدليل, لأنه من الوضوح بمكان, ولأنه حب يحركه
ضمير انخلع عن حظوظ النفس, فلا هوى الا هوى الحبيب, ولا تبع الا تبعه, فلم لا نحدث
بهذا السمو بنات المسلمين, ولم لا نحكى لهن, عن أم سليم بنت ملحان وهى تقاتل فى
الصفوف يوم حنين فترتقى أرواحهن الى الحالة التى هى كمال فى الدين فياخذن الدين ربحا لا خسارة ؟ أم أن الحديث
عنها يكدر أهل الريبة فى بنات المسلمين, فتنطمس بيقظتهن معالم الوهابية.
لا بل أقول,
كانت أم سليم مع زوجها أبى طلحة, يوم حنين وهى حازمة وسطها ببرد لها, وانها لحامل
بعبدالله بن أبى طلحة, ومعها جمل أبى طلحة, وقد خشيت أن يعزها الجمل, فأدنت رأسها
منه, فأدخلت يدها فى حزامته مع الخطام, فقال لها رسول الله(ص): (( أم سليم )) قالت
نعم, بأبى أنت وأمى يا رسول الله, أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين
يقاتلونك, فانهم لذلك أهل, فقال رسول الله: (( أو يكفى الله ياأم سليم ))؟ قال:
ومعها خنجر, فقال لها أبو طلحة: ماهذا الخنجر معك يا أم سليم؟ قالت خنجر أخذته, ان
دنا منى أحد من المشركين بعجته به, قال يقول أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما
تقول أم سليم الرميصاء.
هذه
هى الصورة المثلى, لجذب القوارير الى حياض الدين, نعلمها ذلك, حتى تدرك أن
مثيلاتها كان لهن فى أيام رسول الله نصيب مقدر من الحركة الفاعلة فى بناء
المجتمع, المنضبطة, بأدب الدين,يرعاها حب
متبادل بين الرسول الأعظم(ص) وبين القوارير- الم يقل الرسول لبنات الأنصار يوم قدم
المدينة المنورة, وهن يقلن فرحا بمقدمه :( نحن جوارى من بنى النجار* يا حبذا محمد
من جار).فخرج عليهن فقال: (( أتحبوننى فقالوا: أى والله يارسول الله. فقال: أنا
والله أحبكم , أنا والله أحبكم, أنا والله أحبكم. ثلاث مرات)). دلائل النبوة للبيهقى. أوليس هن القائلات, وايديهن تضرب
الدفوف, يوم مقدمه الميمون أيضا, طلع البدر علينا من ثنيات الوداع, فلو سألتهن من
البدر لقلن لك هو رسول الله(ص).
هذا الحب لا يعرف صاحبه الا ان يفيض به على
الآخرين, ففاض من جوانية صاحبات رسول الله (ص) فسقين به أبناءهن, فأنشأن أمثال أنس,
جاءت به أمه أم سليم الى رسول الله ليخدمه, قال أنس : (( قدم النبى (ص) المدينة,
وأنا ابن عشر سنين, وأن أمه أم سليم أتت به النبى لما قدم فقالت له هذا أنس غلام
يخدمك فقبله )).
فمن من
النساء هذه التى تأتى بولدها ليخدم غيرها راضية منشرحة الصدر بما تفعل؟ نعم لما
كان المخدوم هو من تحب جعلت بين يديه قرة عينها.
هذا الحب لا
يعرف حامله الا السمع والطاعة لمن يحب, هذا الحب يذوق صاحبه طعم الايمان. هذا الحب
صنع المرأة التى كانت تعالج الجرحى, وتقاتل فى الصفوف ذبا عن رسول الله(ص) .
وأنا هنا
لا أتحدث عن المرأة التى صحبت سيدنا رسول الله(ص), لتحمل أختنا المسلمة المعاصرة
المدفع لتقاتل, فذلك شان آخر له تفصيله واعتباراته, ولكن أتحدث عن انسانة تخلل حب
رسول الله(ص) الى شغاف قلبها فاعتصمت بما جاء به حبا وكرامة, لا اكراها وتعسفا,
فهى التى علمت أن رسول الله قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من نفسه وماله
وولده والناس أجمعين ). ففتشت عن السبيل الى نيل هذا الحب فأدركته فى خلائقه صلى
الله عليه وسلم فسكنت اليه. حتى حملها هذا الحب الفياض لذات الحبيب,أن ترى السعادة
تغمرها, والفرحة تملا عليها حياتها , ان هى أهدت, أو دعت رسول الله(ص) الى طعام,
وكانت تعلم تمام العلم أنها ان فعلت ذلك ستحل عليها البركة بما قدمت لرسول الله.
هذه ((أم
أوس بن خالد البهزية أنها أسلت سمنا لها فجعلته في عكة ثم أهدته للنبي صلى الله
عليه وسلم فقبله وأخذ ما فيه ودعا لها بالبركة وردها إليها فرأتها ممتلئة سمنا
فظنت أنه لم يقبلها فجاءت ولها صراخ فقال أخبروها بالقصة فأكلت منه بقية عمر النبي
صلى الله عليه وسلم وولاية أبي بكر وولاية عمر وولاية عثمان ...)). الاصابة لابن حجر – فصل فيمن عرف بالكنية من النساء – حرف
الألف.
وعن أم
مالك الأنصارية أنها جاءت بعكة سمن الى رسول الله(ص) فأمر رسول الله(ص) بلالا
فعصرها ثم دفعها اليها فرجعت فاذا هى ممتلئة, فأت النبى فقالت: نزل فى شى يا رسول
الله؟ فقال: (( وماذاك يا أم مالك؟)) فقالت لم رددت هديتى؟ فدعا بلالا فسأله عن
ذلك فقال: والذى بعثك بالحق! لقد عصرتها حتى استحيت, فقال رسول الله: (( هنيئا لك
يا أم مالك عجل الله ثوابها )) ثم علمها فى دبر كل صلاة: سبحان الله- عشرا.
والحمدلله- عشرا, والله أكبر- عشرا.
اليس
جدير بنا والحالة هذه أن نأصل الاسلام فى بناتنا بذات النهج الذى سلكه النبى من
غير تعسف وتكلف,بل كان سجية منه وطبعا, , ولم لا نضع لهن المناهج التى تصلهن
بالصالحات كيف كن بين يدى رسول الله؟ كيف كانت أم أيوب مع زوجها أبى أيوب لما قدم
رسول الله(ص) من مكة فنزل فى دارهما, فنزل رسول الله السفل – أى الطابق الأرضى من
المنزل- ونزل أبوأيوب العلو. قال أبو أيوب : لما نزل على رسول الله قلت بأبى أنت
وأمى انى أكره أن أكون فوقك وتكون أسفل منى , فقال رسول الله(ص): (( انه أرفق بنا
أن نكون فى السفل لما يغشانا من الناس)). والروعة فى هذا المشهد هذا الحب المكنون
لرسول الله فى أهل هذا البيت,معبرا عنه بحال أم أيوب مع زوجها كيف كان مدة اقامة
رسول الله فى دارهما. يقو ل أبو أيوب: ( ولقد رأيت جرة لنا انكسرت فأهريق ماؤها
فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فرقا- خوفا- من أن
يصل الى رسول الله منا شى يؤذيه, وكنا نصنع طعاما فاذا رد مابقى منه تيممنا – أنا
وأم أيوب- موضع أصابعه فأكلنا منها نريد بذلك البركة). أليس من الظلم, واخفاء
الحقائق, والجفاء المتعمد, أن نعبر فوق تلك المعانى من غير, أن نصلها بالواقع
فتعلم نساء الأمة, قيمة هذا الرسول.
فأذا سألت أم أيوب يا أم أيوب هل يؤذى الماء
الساقط من جرة أحدا ؟ تقول نعم يؤذى رسول
الله. فيا للروعة ويا للحب, وكيف بك ياأم أيوب لو كان الجو باردا, أو أعى السرير
جانبيك, وقد ذهب الماء باللحاف؟ تقول فدا لرسول الله. كذلك أليس حرى بنا أن نعلم المسلمة, ان النبى
كان يخصف نعله , ويرقع ثوبه, ويسير فى خدمة أهله بسيرة سرية, وان هذه السيرة
الحسنة, تجاوز بها حدود بيته فأتحف بها الآخرين. (( عن بنت خباب بن الأرت قالت: خرج أبى غزوة
ولم يترك لنا الا شاة وقال: اذا أردتم أن تحلبوها فأتوا بها أهل الصفة, قالت
فانطلقت بها فاذا برسول الله جالس فأخذها فاعتقلها فحلب- أقول والبنت تنظر فعل
رسول الله, فلا تسأل عن الحب الذى ملك القلب منها لرسول الله بعد ذاك- ثم قال: (( ائتونى بأعظم اناء عندكم )), فذهبت
فلم أجد الا الجفنة التى نعجن فيها فأتيته بها, فحلب حتى ملأها قال: (( اذهبوا
فاشربوا وأميهوا جيرانكم فاذا أردتم أن تحلبوا فأتونى بها )) فكنا نختلف بها اليه
فأخصبنا حتى قدم أبى فأخذها فاعتقلها فصارت الى لبنها- أى الى الحالة الاولى قبل أن يمسها رسول الله-
فقالت أمى: أفسدت علينا شاتنا, قال: وماذاك؟ قالت: ان كانت لتحلب ملء هذه الجفنة,
قال: ومن كان يحلبها؟ قالت: رسول الله, وقد عدلتنى به! هو والله أعظم بركة يدا منى))
. ابن سعد ج 8- ص 291 , حياة الصحابة ج 4- ص 3-4 .
ان
الصورة المشرقة والرائعة فى تصور المرأة , ونظرتها لرسول الله لا تنتهى عند حد,
وهى السمو الشارح لعظيم مكانة رسول الله, عند المرأة, التى صحبته عارفة محبة, أو
التى تراه من أول وهلة , فتعرفه فتحبه.
تحدثنا
كتب السيرة, أن أم معبد الخزاعية, كانت تسكن بقديد, فمر النبى مهاجرا من مكة الى
المدينة بطريقها, وكانت امراة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة, ثم تطعم وتسقى من مر
بها, ولنترك القارى ليشنف اذنيه بهذا الحوار الرائع الذى دار بين رسول الله وأم
معبد: فسألها الرسول: هل عندها شىء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شىء ما أعوزكم,
القرى والشاة عازب, وكانت سنة شهباء.
فنظر
رسول الله الى شاة فى كسر الخيمة, فقال: (( ماهذه الشاة يا أم معبد؟ )) قالت: شاة
خلفها الجهد عن الغنم, فقال: (( هل بها من لبن؟ )) قالت: هى أجهد من ذلك. فقال: ((
أتأذنين لى أن أحلبها؟)) قالت: نعم بأبى أنت وأمى ان رايت بها حلبا فاحلبها. فمسح
رسول الله بيده ضرعها, فتفاجت عليه ودرت, فدعا باناء لها يربض الرهط, فحلب فيه حتى
علته الرغوة, فسقاها, فشربت حتى رويت, وسقى أصحابه حتى رووا, ثم شرب, وحلب فيه
ثانيا, حتى ملأ الاناء, ثم غادره عندها فارتحلوا.
فما لبث
أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا, فلما رأى اللبن عجب, فقال:
من اين لك هذا؟ والشاة عازب, ولا حلوبة فى البيت؟ فقالت: لا والله الا أنه مر بنا
رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت, ومن حاله كذا وكذا, قال: انى والله أراه صاحب
قريش الذى تطلبه, صفيه لى يا أم معبد, فوصفته لزوجها فقالت: ظاهر الوضاءة, ابلج
الوجه, حسن الخلق, لم تعبه ثجلة, ولم تزر به صعلة, وسيم قسيم, فى عينيه دعج, وفى
أشفاره وطف, وفى صوته صهل, وفى عنقه سطع, أحور أكحل, أزج, أقرن, شديد سواد الشعر,
اذا صمت علاه الوقار, وان تكلم علا البهاء, أجمل الناس وأبهاهم من بعيد, وأحسنه
وأحلاه من قريب, حلو المنطق, فضل, لا نزر ولا هذر, كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن,
ربعة, لا تقحمه عين من قصر, ولا تشنؤه من طول, غصن بين غصنين, فهو أنضر الثلاثة
منظرا, وأحسنهم قدرا, له رفقاء يحفون به, اذا قال استمعوا لقوله, واذا أمر تبادروا
الى أمره, محفود, محشود, لا عابس ولا مفند. فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش
الذى ذكروا من أمره ما ذكروا, لقد هممت أن أصحبه, ولأفعلن ان وجدت الى ذلك سبيلا.
هذا الوصف
الرائع لرسول الله من امراة بسيطة لا تملك من الدنيا شيئا وهى أم معبد, ينبئنا أن
الواصف ما أحسن الوصف الا حين كملت عنده محاسن الموصوف, فعبرت عنها بما استقر فى
وجدانها, وكان هذا فى قليل الوقت,وقصير الصحبة, فكيف ان طال الوقت, وامتدت الصحبة,
ولما كمل الوصف عند أبى معبد كذلك علم أن الموصوف هو من تريده قريش من غير أن يراه-
فاجتمع صدق الواصف مع ماهو حقيقة الموصوف, فقال أبو معبد: لقد هممت أن أصحبه,
ولأفعلن ان وجدت الى سلك سبيلا.
وذكر السهيلى
فى الروض الانف: ( أن آل أبى معبد كانوا يؤرخون بذلك اليوم ويسمونه: يوم الرجل
المبارك, يقولون فعلنا كيت وكيت قبل أن يأتينا الرجل المبارك, أو بعد ماجاء الرجل
المبارك, ثم انها أتت- يعنى ام معبد- المدينة بعد ذلك بما شاء الله, ومعها ابن
صغير قد بلغ السعى فمر بالمدينة على مسجد رسول الله وهو يكلم الناس على المنبر
فانطلق الى أمه يشتد, فقال لها ياأمتاه انى رأيت الرجل المبارك, فقالت له: يابنى
ويحك هو رسول الله. قال السهيلى: ومما يسأل عنه فى هذا الحديث- أى حديث ام معبد-
أن يقال: هل استمرت تلك البركة فى شاة أم معبد بعد ذلك اليوم, أم عادت الى حالها؟
وفى الخبر عن هشام بن حبيش الكعى, أنا رأيت تلك الشاة وانها لتأدم أم معبد وجميع
صرمها, أى أهل ذلك الماء,...
وهاهى (( أم أسيد بضم الهمزة امرأة أبي أسيد
الساعدي ثبت ذكرها في صحيح البخاري من طريق غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال
لما أعرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فما صنع لهم
طعاما ولا قرب إليهم إلا امرأته أم أسيد بلت تمرات في تور من حجارة من الليل فلما
فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أتته فسقته تتحفه بذلك وأخرج أبو موسى من
طريق الجراح بن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال لما أراد أبو أسيد الساعدي أن
يتزوج أم أسيد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وكان هو الذي
زوجها إياه فصنعوا طعاما فكانت هي التي تقر به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن
معه)). الاصابة فى تمييز الصحابة
هذه الحقائق
الماثلة بين يديك, تحدث عن نساء, بلغن الذروة فى حب هذا الدين, طائعات, عابدات,
حتى انتهى بهن هذا الكمال الى أن أوصى النبى(ص) بهن , وبمن هن دونهن فقال: ((
واستوصوا بالنساء خيرا فانهن عندكم عوان- أسيرات- لا يملكن لأنفسهن شيئا, ...
فاعقلوا أيها الناس قولى, فانى قد بلغت... )).
أقول لا
بأس أن ننتهى عند تلك الصور الرائعة, للمرأة فى حياة رسول الله, وهى بلا ريب, لا
تشبه حياة المرأة المسلمة فى دنيا المتنطعين, المرأة التى لسان حالها وهى مكبلة
بقيود الوهابية, تقول: لماذا خلقنا؟ ليتنا ماخلقنا!
أما فيما يختص
بقيادة المرأة للسيارة, فلا تخلو الارض من قائلين بجوازها, ويكفى اللبيب هذه
الفتوى.
جاء فى مجلة
منار الاسلام العام 2005- فتاوى شرعية- س:( هل يجوز للمرأة المسلمة أن تقود
السيارة كى تذهب الى عملها أو كى توصل أولادها الى مدارسهم؟
ج: (( لقد ثبت فى
تاريخ الاسلام, أن أم عمارة نسيبة المازنية خرجت مع سيدنا رسول الله لقتال
المشركين فى غزوة أحد, وخرجت مع أبى بكر للقتال فى حروب الردة, وأن خولة بنت
الأزور قاتلت مع جيش خالد بن الوليد فى فتوح الشام, وبعض الصحابيات كن يرافقن
الجيش الأسلامى للتطبيب ومداواة الجرحى, وكن يركبن الخيل والابل من غير حرج, ولا
شك أن قيادة المرأة المسلمة للسيارة فى عصرنا أكثر أمنا من ركوب الخيل والأبل, فلا
حرج عليها من ذلك اذا تقيدت بالضوابط الشرعية من حجاب وعدم تجاوز لمسافة القصر,
ومصاحبة محرم لها فيما اذا تجاوزت مسافة القصر. والله أعلم)).
أين هذه الفتوى
من ذلك الغلو الذى أحكم الخناق على حركة المرأة, باسم الاسلام.
وليدرك
الوهابية أن المرأة المسلمة ليست كالمتاع متى ماكرهه صاحبه ألقاه, بل هى كيان
انسانى حر تفيض رحمة وعطاء. تتحرك فى قضاء شئونها بضوابط الشرع غير مخلة بها,
وتعلم و تعلم أن الاسلام قد كفل لها الحق فى أن تراجع حتى أمير المؤمنين, اذا وجدت
فى خطابه ماتراه يمس بحقوقها, وهذا تلحظه فى بيان قوله تعالى: (وآتيهم إحداهن
قنطارا), - قال ابن حجر- فيه إشارة إلى جواز كثرة المهر، وقد استدلت بذلك المرأة
التي نازعت عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك، وهو ما أخرجه عبد الرزاق من طريق أبي
عبد الرحمن السلمي قال قال عمر: لا تغالوا في مهور النساء: فقالت امرأة ليس ذلك لك
يا عمر، إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب، قال وكذلك هي في قراءة ابن
مسعود ” فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته ” وأخرجه الزبير بن بكار من وجه آخر
منقطع ” فقال عمر: امرأة أصابت رجل أخطأ ” وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن مسروق عن
عمر فذكره متصلا مطولا.. )). فتح البارى –كتاب النكاح
واذا تصفحت
كتب التراجم- كتهذيب الكمال لأبى الحجاج المزى-وكتب التاريخ التى تحكى عن الحضارة الاسلامية,
تجد لنساء الصدر الأول للاسلام نصيبا وافرا من المعرفة, والمشاركة فى حركة الحياة
وتقدمها, فهى العابدة, الفقيهة, تروى الحديث النبوى ويروى عنها, وهذا مسروق الفقيه
العالم اذا حدث عن السيدة عائشة قال : (( حدثتنى الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب
الله المبرأة )). وعن مسروق أنه قيل له هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: أى والذى
نفسى بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد يسألونها عن الفرائض )). الطبقات الكبرى لابن سعد- ج 6- ص66. والحال كذلك عند من جئن بعدهن. جاء فى معجم
البلدان (( وعائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركاني، امرأة عالمة واعظة، روت عن أبي
عبد الله محمد بن إسحاق بن مندة، روت عنها أُمّ الرّضَى ضُوء بنت حمد بن علي
الحبّال وغيرها، ماتت سنة 460)). معجم البلدان للحموى-حرف
الواو- وركا ن محلة بأصبهان.
ان
الجبلة الانسانية شأنها التفلت على الأوامر اذا كانت جامدة لا تخاطب شغاف القلب,
فاذا خاطبت دواخل الفرد انفعل معها فأصبحت له معتصما, لا يركن الى غيرها ولا
يتعالى عليها,فالاسلام عرف هذا فخاطب
العقل ليؤمن القلب فيسلم, فليفقه هذا دعاة الوهابية.
7- المسلم وعلاقته
بالصالحين
ان الوهابية
وهم فى غيهم هذا يسعون كذلك الى هدم ركن منيع به اقامة الدين, الا وهو
علاقة الفرد المسلم بالصالحين والأولياء- الذين اذا خلا
منهم الجو المسلم, خلت منه الفضائل, وتضاءلت فيه معالى الأمور- وذلك بما يبثونه-
أعنى الوهابية- بين الدهماء, من مفاهيم تستوجب الشعور بالغربة تجاه الأولياء, مع
تحرك خسيس, يدفعه الحسد, يوحى للجهلاء, بأنه لا ولاية, ولا أولياء!
فحالهم هذا
اما أن يكون انكارا لوجود هذه الجماعة, فحاصل أمرهم رد للحق بالباطل, واما أن يكون
جهلا بالمقام الذى قصرت عنه شخوصهم, لشغلهم بالقيل والقال, مع تركهم العمل, وهذا
ما ارجحه.
ولكن لنفترض أن حربهم على الأولياء منشأها الانكار بوجودهم شرعا, فهل ننكر
قوله تعالى:( الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )؟. وهل نرد أقوال
المفسرين لهذه الآية؟ ثم ماذا فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم يروى عن ربه فى الحديث القدسى ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب )؟
البخارى- كتاب الرقائق- باب التواضع. وهل عرفوا هذا الوعيد لمن؟ للمسلم أم لغير
المسلم؟ فاذا كان للمسلم, فماذا فهموا منه؟ واذا كان لغير المسلم فما الدليل عليه؟
فاليأتونا بعلم ان كانوا عالمين.
اذا
نقول من هم هؤلاء المفسرون الذين عرفوا الولى, وماذا قالوا؟
ولكن قبل أن ندخل على أقوال المفسرين, نفترض
مع الوهابية افتراضا آخر تنزلا معهم حتى لا نلزمهم بانكار وجود الأولياء. فنقول:
بلسانهم- أعنى الوهابية- ان الأولياء موجودون ولكن لا نعرفهم فنميزهم بشخوصهم, فلا نقول مثلا, ان الشيخ
عبدالقادر الجيلانى من أولياء الله! لأننا لا نستطيع أن نثبت له ذلك.
أقول: لا
بأس لنر, هل هذا المنحى الذى نحوه فيه معتصما لهم وحجة أم لا؟
فلندخل على علماء
التفسير, لناخذ الحقيقة منهم.
قال الامام
القرطبى: قوله تعالى(( الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) قوله
تعالى ( الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ) أى من تولاه الله تعالى وتولى حفظه
وحياطته ورضى عنه فلا يخاف يوم القيامة ولا يحزن, قال تعالى: ( ان الذين سبقت لهم
منا الحسنى اولائك عنها ). أى عن جهنم . ( مبعدون ) – الى قوله- ( لا يحزنهم الفزع
الأكبر )
وروى سعيد بن جبير: أن رسول الله سئل من
أولياء الله؟ فقال: (( الذين يذكر الله برؤيتهم ))
وقال عمر بن
الخطاب فى هذه الآية: سمعت رسول الله يقول (( ان من عباد الله عبادا ماهم بأنبياء
ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى )) . قيل
يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم. قال: (( هم قوم تحابوا على
غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فو الله ان وجوههم لنور وانهم على منابر من
نور لا يخافون اذا خاف الناس ولا يحزنون اذا حزن الناس ثم قرأ- (( الا ان أولياء
الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ))
وقال على بن
أبى طالب: أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر, عمش العيون من العبر, خمص البطون
من الجوع, يبس الشفاة من الذوى. وقيل (( لا خوف عليهم )) فى ذريتهم, لأن الله
يتولاهم. (( ولا هم يحزنون )) على دنياهم لتعويض الله اياهم فى أولاهم واخراهم
لأنه وليهم ومولاهم.
وجاء فى ((
الدر المنثور )) للسيوطى:
( ألا ان
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون)
أخرج أحمد فى
الزهد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال: قال الحواريون: ياعيسى من أولياء الله
الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ قال عيسى عليه السلام: الذين نظروا الى باطن
الدنيا حين نظر الناس الى ظاهرها, والذين نظروا الى آجل الدنيا حين نظر الناس الى
عاجلها, وأماتوا منها مايخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم, فصار
استكثارهم منها استقلالا وذكرهم اياها فواتا, وفرحهم بما أصابوا منها حزنا, وما
عارضهم من نائلها رفضوه, وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه, خلقت الدنيا عندهم
فليس يجددونها, وخربت بينهم فليس يعمرونها, وماتت فى صدورهم فليس يحبونها,
يهدمونها فيبنون بها آخرتهم, ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم, ويرفضونها فكانوا
برفضها هم الفرحين, وباعوها فكانوا ببيعها هم المربحين, ونظروا الى أهلها صرعى قد
خلت فيهم المثلات فأحبوا ذكر الموت وتركوا ذكر الحياة, يحبون الله تعالى ويستضيئون
بنوره ويضيئون به, لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب, بهم قام الكتاب وبه قاموا,
وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا, وبهم علم الكتاب وبه علموا, وليس يرون نائلا مع ما
نالوا, ولا أمانى دون ما يرجون, ولا خوفا دون ما يحذرون.
وأخرج ابن
جرير وابن أبى حاتم عن ابن زيد عنه فى قوله( ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا
هم يحزنون) قال هم الذين اذا رؤوا ذكر الله.
وأخرج
الطبرانى وأبو الشيخ وابن مردوية والضياء فى المختارة عن ابن عباس رضى الله عنهما
مرفوعا وموقوفا( ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قال: هم الذين
اذا رؤوا ذكر الله لرؤيتهم) .
وأخرج ابن
المبارك وابن أبى شيبة وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردوية عن سعيد بن جبير رضى الله
عنه عن النبى ( ألا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) قال: ( يذكر الله
لرؤيتهم) .
وأخرج ابن
المبارك والحكيم الترمذى فى نوادر الأصول والبزاز وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو
الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قيل يارسول الله من أولياء
الله؟ قال: الذين اذا رؤوا ذكر الله. الى آخر كلامه, والذى ذكر فيه قريبا مما ذكر
الأمام القرطبى.
أقول هذا العلم
الوارد فى حق الأولياء عن رسول الله, وعن
العلماء الذين نقلوا عنه وشرحوا سنته, الا يصلح دليلا كافيا فى اثبات أن الأولياء
هم صفوة الأمة المحمدية, وأن معرفتهم من الجائز بمكان؟.
وها هو الامام
الذهبى فى سير أعلام النبلاء يقول عن سيدنا أويس القرنى: ( هو القدوة الزاهد سيد
التابعين.. الى أن قال: (( وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده الصالحين)). وعندنا
المزيد للمكابر, لكن المنصف يكفيه هذا.
أخلص الى أنه قد
ثبت عندك أن الأولياء, هم خيار أمة سيدنا رسول الله بلاريب, فأتبعت العلم
بالعمل ونفضت عنك جهالات
الوهابية.
فالواجب علينا بعد
ذلك أن نجيب عن السؤال التالي, والذي أحسب أن دعاة الوهابية, أيضا ينتظرونه. وهو.
هل الأولياء
هم الصوفية, أم أن الصوفية من جملة الأولياء؟
إن الإجابة على
هذا السؤال تحتاج منا أن نعرف الصوفي, من هو؟ وذلك طبقا لتعريف الصوفية أنفسهم.
فنقول: ان تعريف الصوفى يخضع بالضرورة الى
معرفة ماهية التصوف, فلنعرف التصوف اولا حتى ننتهى الى من هو الصوفى؟
يقول ابو
بكر الكتانى, المتوفى سنة 233ه : (( التصوف: خلق, فمن زاد عليك فى الخلق, فقد زاد
عليك فى الصفاء )).
وتروى الرسالة
القشرية: أن (( أبا محمد الجريرى )) المتوفى سنة 311ه, سئل عن التصوف فقال: ((
الدخول فى كل خلق سنى , والخروج من كل خلق دنى )) . ويرى قوم من الصوفية أن
التصوف, لا ينتهى عند الأخلاق, وان كانت
الأخلاق الكريمة أساسا من أسس التصوف, بل الأخلاق السامية عندهم تحمل الصوفى الى عوالم المعرفة بالله, والتى عبر عنها
حارثة صاحب رسول الله, حين خاطبه النبى :
(( كيف اصبحت يا حارثة )). ويرى الجنيد أن التصوف: هو : أن يميتك الحق عنك ,
ويحييك به. وهذه الحالة لا سبيل اليها الا بمصاحبة الاخلاق الفاضلة, وقد كملت فى
حارثة فاستحق بها قول رسول الله له (( عرفت فالزم )), وهذه الشهادة من رسول الله
لصاحب رسول الله كافية فى الاستدلال على أعمال القلوب, وفقه الباطن, لأن الحوار
الذى دار بين رسول الله وحارثة, لا يتعلق بالخارجى من حارثة, بل بدعوة الايمان
والايمان جوانى لا يرتبط بالظاهر, الا حين تترجمه الأعضاء عملا. فمن أبطأ به التنظير عن العمل فلن يدرك حالة
حارثة,, لأنها- أعنى حالة حارثة- من أعمال القلوب.
قال سيدى ابن
عطاء الله السكندرى فى كتابه لطائف المنن: ( قال رسول الله:( كيف أصبحت ياحارثة)
قال: أصبحت مؤمنا حقا. فقال: ( لكل حق حقيقة, فما حقيقة ايمانك؟) قال عرضت نفسى
على الدنيا فاستوى عندى ذهبها ومدرها, وكأنى أنظر الى أهل الجنة فى الجنة يتنعمون,
والى أهل النار فى النار يعذبون, وكأنى أنظر الى عرش ربى بارزا من أجل
ذلك أسهرت ليلى, وأظمأت نهارى. فقال له رسول الله : ( يا حارثة عرفت فالزم). ثم
قال : ( عبد نور الله قلبه بنور الايمان). فقال حارثة: كأنى ولم يقل رأيت لأن ذلك
للأنبياء دونه, وكذلك قول حنظلة الأسدى لرسول الله تذكرنا الجنة والنار حتى كأنا
رأى عين ولم يقل حتى نراها رأى عين لما قدمناه.
وفى حديث
حارثة فوائد عشرة:
الفائدة
الأولى: أنه لما سأل النبى حارثة فقال اه: (( كيف أصبحت يا حارثة؟)) لم يقل حارثة
غنيا ولا صحيحا, ولا شيئا من الأحوال البدنية أو الأمور الدنيوية, لأن حارثة علم
أن رسول الله أجل من أن يسأل عن دنيا بل فهم عنه أنه انما سأله كيف حاله مع الله؟
فلذلك قال الصحابى أصبحت مؤمنا حقا أن أبناء الدنيا اذا سئلوا فلا يخبرونك الا عن
دنياهم, وربما أخبروك اذا سألتهم عن الضجر بأحكام مولاهم فالسائل لمن هذا وصفه
مشارك له, فيما استثاره سؤاله بجريان سببه منه. قال الشيخ أبو العباس لرجل أتى من
الحج: كيف كان حجكم؟ فقال ذلك الرجل: كثير الرخاء كثير الماء كذا كذا, وسعر كذا
وكذا, فأعرض الشيخ عنه وقال نسألهم عن حجهم وما وجدوا فيه من الله من علم ونور
وفتح, فيجيبون برخاء الأسعار وكثرة المياه حتى كأنهم لم يسألوا الا عن ذلك.
الفائدة
الثانية: أنه ينبغى للمشايخ تفقد حال المريدين, ويجوز للمريدين أخبار الأستاذين,
وان لزم من ذلك كشف حال المريد لأن الأستاذ كالطبيب, وحال المريد كالعورة قد تبدى
للطبيب لضرورة التداوى.
الفائدة
الثالثة: انظر الى قوة نور حارثة فى قوله أصبحت مؤمنا حقا, فلولا أنه منصور بنور
البصيرة الموجبة لمحض اليقين, والتحق بالمنة ما أخبر بذلك وأبداه, وأثبت لنفسه
حقيقة الايمان بين يدى صاحب المحو والاثبات, وانما أبدى ذلك حارثة لأنه علم أن
طواعية رسول الله واجبة والرسول قد استخبره عن حاله, فلم يسعه الكتم وأبدى ما علم
أن الله تفضل به عليه ببركات متابعة رسول الله ليفرح له رسول الله بمنة الله,
فيشكر الله عنه ويسأل الله تثبيت ما أعطاه, ومثل هذا ما ذكره بعض العلماء. قال: و
قعت زلزلة بالمدينة زمن خلافة عمر فقال عمر: ما هذا؟ ما أسرع؟ ما أحدثتم؟ والله
لئن عادت لأخرجن من بين أظهركم فانظر حكم الله هذه البصيرة التامة. كيف أشهدته؟ أن
الزلزلة انما هى من حدث وأن ذلك الحدث منهم وأنه برىء منه, فهل هذا الا من نور
البصيرة التى وهبها عمر, وكذلك ضربه لأبى هريرة فى صدره, حين وجد معه نعل رسول
الله وقد أمره أن من لقيه من وراء الحائط يشهد أن لا اله الا الله أن يبشره
بالجنة, ورجوعهما الى رسول الله قول عمر: يا رسول الله أنت أمرت أبا هريرة أن يأخذ
نعليك, ويبشر من لقى من وراء الحائط يشهد أن لا اله الا الله بالجنة؟ قال: نعم.
قال: لا تفعل يا رسول الله خلهم يعملوا. فقال عليه السلام: ( خلهم يعملوا)) وهاتان
الواقعتان يعرفانك بعظم قدر عمر, ووفور أخذه من رسول الله واحتظائه من نوره, وهذا
الحديث رويناه عن صحيح مسلم, وأنما ذكرته ههنا مختصرا.
الفائدة
الرابعة: يفهم من هذا الحديث انقسام الايمان الى قسمين: ايمان حقيقى وايمان رسمى.
فلذلك أخبر الصحابى بقوله أصبحت مؤمنا حقا والحديث يشهد له أيضا ما رواه البخارى
فى صحيحه يرفعه أن رسول الله قال: (( ذاق طعم الايمان من رضى بالله ربا وبالاسلام
دينا وبمحمد رسولا )).
وروى أيضا أنه
قال: (( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان, وطعمه أن يكون الله ورسوله أحب
اليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه الا لله, وأن توقد نارا عظيمة فكان أن يقع
فيها خير له من أن يشرك بالله )) وقد جاء فى الحديث أيضا قال: قال رسول الله: ((
المؤمن القوى خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف )) .
وفى كل خير
وقد قال الله سبحانه: ( أولئك هم المؤمنون حقا ). وهما صنفان عباد آمنوا بالله على
التصديق والاذعان, وعباد آمنوا بالله على الشهود والعيان. وهذا الايمان الثانى
تارة يسمى ايمانا, وتارة يسمى يقينا لأنه ايمان انبسطت أنواره وظهرت آثاره,
واستمكن فى القلب عموده ودوام السر شهوده, وعنه يكون خالص الولاية كما أن القسم
الآخر يكون ظاهر الولاية وليس يستوى ايمان مؤمن يغلب الهوى, وايمان مؤمن يغلبه
الهوى, ولا ايمان مؤمن تعرض له العوارض فيدفعها بايمانه كايمان مؤمن غسل قلبه من
العوارض, فلا ترد عليه لشهوده وعيانه ولأجل هذا ما اختلف أهل الطريق فى عبدين
أحدهما يرد عليه خاطر الذنب, فيجاهد نفسه حتى يذهب ذلك عنه والآخر لا يخطر له هذا
الخاطر أصلا أيهما أتم والذى لا تشك فيه تفضيل هذا القسم الثانى, فانه أقرب لأحوال
أهل المعرفة, والأول هو حال أهل المجاهدة, ولأنه لا يكون القلب على هذه الصفة الا
والنور قد ملأ زواياه, فلأجل ذلك لم يجد خاطر الذنب مساعا.
الفائدة
الخامسة: مطالبة الرسول لحارثة باقامة البرهان على ماأثبته لنفسه يفيدك ذلك أنه
ليس كل من ادعى دعوى سلمت له. وقد قال الله سبحانه وتعالى: ( فتمنوا الموت ان كنتم
صادقين ) . ( قال هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ) فموازين الحقائق شاهدة للعباد أو
عليهم. وقد قال سبحانه: ( وأقيموا الوزن بالقسط ).
فمن ادعى حالا
مع الله أقيم عليه ميزانها, فان شهد له سلمنا له والا فلا , واذا كانت الدنيا على
خسارة قدرها عند الله لا تسلم لك الا ببينة تقيمها, فمن الأحرى أن لا تسلم لك
مراتب الموقنين حتى يثبتها لك برهان وتسلمها لك حقيقة)).
هذا الحديث
– كيف أصبحت- ذكره الحافظ السيوطى فى كتابه ( تأييد الحقيقة العلية ). قال(( : قال
شارح منازل السائرين حقيقة الشى عند أهل هذا الشأن- يعنى الصوفية- علاماته الدالة عليه ومنه قوله (ص) لحارثة كيف
أصبحت فقال أصبحت مؤمنا حقا فقال ان لكل قول حقيقة فما حقيقة ايمانك فقال عزفت
نفسى عن الدنيا الحديث فأخبره بعلامات صحة الايمان)). وجاء فى حلية الأولياء
للحافظ أبى نعيم ج1ص242 أنه (ص) قال ذلك لمعاذ بن جبل. وذكر الحافظ ابن حجر فى
ترجمة الحارث هذا الحديث, وقال بأنه معضل وكذا أخرجه عبدالرازق عن معمر... وأحرجه
فى التفسير عن الثورى... فذكر نحوه وزاد في آخره فقال : يارسول الله أدع الله لى
بالشهادة فدعا له فأغير على سرح المدينة فخرج فقاتل فقتل وجاء موصولا من طرق
آخرى...الى آخر كلامه. كما ذكره الغمارى
فى تعليقه على كتاب – تأييد الحقيقة العلية للسيوطى- وذكر فيه قريبا من كلام ابن
حجر, ثم قال وأخرجه البزار والبيهقى فى الشعب من طريق يوسف بن عطية عن أنس أن النبى (ص) لقى رجلا يقال له حارثة... وفى آخره عرفت فالزم, قال ويوسف
هذا لا يحتج به لكن تابعه جرير بن عتبة بن عبدالرحمن فرواه عن أبيه عن أنس فيما
رواه ابن منده.
فهل قرأت فيما
قرأت أروع من هذا الكلام؟ والذى نحسب أنه خرج من قلب عرف الحق فأحب, بعد أن يعرف
بما تجيش به روحه من معارف- أملتها عليه التقوى, قال تعالى: ( واتقوا الله ويعلمكم
الله )- ففاض بعلوم ربانية من ركن اليها فقد ركن الى قول سديد, ومن أخذ بها فقد
أخذ بالرأى الذى يعتد به, وبه النجاة.
وهذا الصوفى من
أمثال ابن عطاء الله هو الذى نشير بالقول اليه, وندل الناس عليه, وما الحكم
العطائية الا شاهد على صدق ما ندعواليه.
فاذا عرفت هذا,
عرفت من هو الصوفى, ولكن لا باس فى أن نزيدك معرفة هى خلاصة ذلك كله.
التصوف هو معراج الروح الى السمو الأخلاقى,
المفضى بصاحبه الى المعرفة بالله- التى نالها أصحاب رسول الله(ص) ومنهم حارثة- المطلوبة شرعا, والصوفى هو الساعى
والمحصل لهذه المعرفة , عندها يدعى( بولى الله). فاذا كان ذلك كذلك, فلا مشكل فى أن
يكون الصوفية هم أولياء الله أو من جملة
أولياء الله , لان الغاية مع كلا الوصفين قد أدركت, أصبحوا أولياء الله.
ان الصوفية اذا
انفردوا بالولاية, أو شاركوا الآخرين فيها فقد نالوها بفعالهم, وطلبوها باخلاصهم.
ومع ذلك لا تجدنا نسعى الى تهوين سعى الآخرين فى أن يكونوا أولياء الله بل نحمد لهم
فعالهم.
ومع هذا فالمعروف عرفا بين العقلاء, أن الولاية
والتسمى بها, اختص بها الصوفية, لما تدل عليه آحوالهم, من صفات تحققت فيهم , وصف
بها الشرع أقواما استحقوا الولاية من الله, فصاروا أولياء الله, منهم الذين اذا
رووا ذكر الله. فاذا وجدت من سمى بها- أعنى الولاية- من غير هذه الطائفة الصوفية, فخروج عن المألوف,
ومع ذلك تجده قد شرب من منابعهم وان لم يتسم باسمهم , لأنهم-أى الصوفية- كما يقول
الشيخ سعيد حوى – والرجل من الاخوان المسلمين السوريين- فى كتابه تربيتنا الروحية:
((
لقد
جربت كثيرا ورأيت كثيرا ونادرا ماوجدت كمالا فى النفس أو احسانا فى السلوك أو قدرة
على التعامل العاقل الا اذا وجدت تربية اسلامية صوفية صافية وذلك لأن مفاتيح النفس
البشرية انما هى فى هذه التربية وأصولها وقواعدها لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن
رسول الله تربية النفس وتزكيتها وتخصصوا لذلك وتفرغوا له وفطنوا لما لم يفطن له
غيرهم وقامت لهم فيه أسواق من التجارب الثرة فى كل عصر فما لم يأخذ الانسان عنهم
تبقى نفسه بعيدة عن الحال النبوية, ان الصوفية هم الذين ملكوا العلم الذى تتهذب به
النفوس البشرية...)).
قال الامام
عبدالقاهر البغدادى فى كتابه الفرق بين الفرق : (( الفصل الأول من فصول هذا الباب
فى بيان أصناف أهل السنة والجماعة. اعلموا أسعدكم الله أن أهل السنة والجماعة
ثمانية أصناف من الناس, فعد الأصناف الخمسة ثم قال: (( والصنف السادس منهم- يعنى
من أهل السنة والجماعة- الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا, واختبروا فاعتبروا,
ورضوا بالمقدور وقنعوا بالميسور, وعلموا أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك مسئول
عن الخير والشر, ومحاسب على مثاقيل الذر, فأعدوا خير الاعداد ليوم المعاد, وجرى
كلامهم فى طريقى العبارة والاشارة على سمت أهل الحديث دون من يشترى لهو الحديث, لا
يعملون الخير رياء, ولا يتركونه حياء, دينهم التوحيد ونفى التشبيه, ومذهبهم
التفويض الى الله تعالى, والتوكل عليه والتسليم لأمره, والقناعة بما رزقوا
والاعراض عن الاعتراض عليه. (( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
)).
والتعريف هذا حقا
لا يتنزل الا على الأولياء, وقد نعت به هذا العالم الصوفية, فهم بلا شك أولياء الله. فالعاقل مهما علا فى مدارج
المعرفة, فهو بلا ريب فى حاجة الى جلاء القلب وتنقيتة من المعاصى, والصوفية هم
أطباء القلوب.
ويكفى الصوفية شرفا وبيانا بأنهم أولياء الله
حقا, أن يشهد لهم حجة الاسلام الامام أبو حامد الغزالى فى كتابه المنقذ من الضلال
فيقول: (( ولقد علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن
سيرتهم أحسن السيرة وطريقتهم أصوب الطرق وأخلاقهم أزكى الأخلاق... الى آخر
كلامه)).
أقول فما
الولاية ان لم تكن ما وصف به الغزالى رحمه الله الصوفية؟
ونقل عن العز بن
عبد السلام قوله: (( قعد القوم من الصوفية على قواعد الشريعة التى لا تنهدم دنيا
وأخرى, وقعد غيرهم على الرسوم, ومما يدلك على ذلك ما يقع على يد القوم من الكرامات
وخوارق العادات, فانه فرع عن قربات الحق لهم, ورضاه عنهم...)). وهذا حال أولياء
الله مع الله.
نماذج رائعة
وبعد فاذا قال
المعاند – كالمستهزىء- هذا التصوف المثالى- الذى قلتم أن أهله هم أولياء الله
خاصة, وأن من تسمى بالولى من غيرهم , فان تسميته حق, مع أنها خروج عن المألوف-
خبرونا بأهله, وسموا لنا أصحابه, وحدثونا عن صنيعهم للأمة, نخاطبه هون عليك , قد تنكر العين ضوء الشمس من
رمد* وينكر الفم طعم الماء من سقم, وان
شئنا قلنا له وجحود من جحد الصباح اذا بدا من بعد ما اشتهرت له أضواء* ما دل أن الصبح ليس بطالع بل مقلة قد أنكرت
عمياء, ومع ذلك فلا بأس أن ننقل لك من كتب
التراجم والرجال مايذهب تنطعك, ان صح منك العزم.
قال الذهبى تذكرة
الحفاظ الجزء الثالث ص 852: (( ابن الاعرابى الامام الحافظ الزاهد شيخ
الحرم أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصرى الصوفى صاحب
التصانيف........ وكان ثقة ثبتا عارفا عابدا ربانيا كبير القدر بعيد الصيت.
قال السلمى: سمعت محمد بن الحسن الخشاب سمعت ابن
الاعرابى يقول: المعرفة كلها الاعتراف بالجهل, والتصوف كله ترك الفضول, والزهد كله
أخذ ما لابد منه,... ومن تصانيفه: كتاب طبقات النساك, وكان قد صحب الجنيد وأبا
أحمد القلانسى وصنف تاريخا للبصرة كبيرا... مولد ابن الاعرابى سنة ست وأربعين
ومائتين ومات فى ذى القعدة سنة أربعين وثلاثمائة, رحمه الله تعالى)).
وقال الذهبى تذكرة الحفاظ الجزء الثالث ص 901: (( محمد بن داود بن
سليمان, الحافظ الزاهد الحجة شيخ الصوفية أبو بكر النيسابورى, سمع محمد بن عمرو
قشمرد ومحمد بن ابراهيم البوشنجى وابن الضريس والنسائى وأمثالهم بخراسان والحجاز
والشام ومصر والموصل, وصنف الأبواب والشيوخ وأملى زمانا, وروى عنه الحاكم وابن
منده وابن جميع وأبو زكريا المزكى وخلق, وكان يعد من الأولياء- تنبه لقول الذهبى
وكان يعد من الأولياء- قال الدارقطنى: ثقة فاضل.
وعنه قال: أكلت فى
أيام القحط رغيفا واحدا فى أربعين يوما بالبصرة, كنت اذا جعت قرأت يس بنية الشبع.
وقال الخليلى: معروف
بالحفظ بين حفظه وعلمه فى فوائد أملاها, قلت: توفى سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة
رحمه الله تعالى)).
وقال الذهبى تذكرة
الحفاظ الجزء الثالث ص 961: (( غندر وأما غندر الثالث فهو صوفى محدث جوال, لقى
الجنيد وطبقتة وكتب الحديث وسكن مصر وهو الشيخ أبو الطيب محمد بن جعفر بن دران
البغدادى غندر, سمع أبا خليفة الجمحى وابراهيم بن عبدالله المخزومى وأبايعلى الموصلى,
حمل عنه الدارقطنى وأبو حفص الكتانى وطائفة سواهما, توفى سنة سبع وخمسين
وثلاثمائة)).
وقال أيضا- أعنى
الذهبى تذكرة الحفاظ الجزء الرابع ص 1439: ((
اليونينى الشيخ الفقيه الحافظ الامام القدوة تقى الدين أبو عبدالله محمد بن أبى
الحسن أحمد بن أحمد بن عبدالله بن عيسى بن أحمد بن على البعلبكى الحنبلى, مولده
سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة بيونين, ولبس الخرقة من الشيخ عبدالله البطائحى صاحب
الشيخ عبد القادر, وصحب الشيخ عبدالله اليونينى وتفقه بالشيخ الموفق وبرع فى الخط
المنسوب وسمع من أبى طاهر الخشوعى وأبى التمام القلانسى وحنبل الرصافى والحافظ عبد
الغنى وأبى اليمن الكندى وغيرهم.... ونشأ الفقيه يتيما مع والدته فأسلمته نشابيا
ثم حفظ القرآن وجود الكتابة ثم حفظ الجمع بين الصحيحين بكماله, ذكره الحافظ عمر بن
الحاجب فأطنب فى وصفه فأسهب وأغرب وأعرب فقال: اشتغل بالفقه والحديث الى أن صار
اماما حافظا.. الى أن قال: لم ير فى زمانه مثل نفسه فى كماله وبراعته وجمع بين
علمى الشريعة والحقيقة وكان حسن الخلق والخلق نفاعا للخلق مطرحا للتكلف, من جملة محفوظه الجمع بين الصحيحين للحميدى وحدثنى
أنه حفظ صحيح مسلم جميعه وكرر عليه فى أربعة أشهر وكان يكرر على أكثر مسند أحمد من
حفظه وأنه كان يحفظ فى الجلسة الواحدة ما يزيد على سبعين حديثا.
وقال ولده قطب
الدين: حفظ الجمع بين الصحيحين وحفظ صحيح مسلم فى أربعة أشهر وحفظ سورة الأنعام فى
يوم واحد وحفظ ثلاث مقامات من الحريرية فى بعض يوم, وكان الأشرف يحترمه ويعظمه
وكذلك أخوه الصالح وقدم فى أواخر عمره دمشق فخرج الملك الناصر يوسف الى زيارته
بزاوية الفرنثى وتأدب معه.
قلت: كان الشيخ
الفقيه كبير القدر يذكر بالكرامات والأحوال...)).
وجاء ذكر
الشيخ اليونينى فى البداية والنهاية لابن كثير الجزء الثالث
ص 93 فى ذكر سنة سبع عشرة وستمائة قال:
(( وفيها توفى من الأعيان.... فذكر منهم
الشيخ عبدالله اليونينى الملقب أسد الشام رحمه الله ورضى عنه, من قرية ببعلبك يقال
لها يونين وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة, وكان من الصالحين الكبار المشهورين
بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر له همة عالية فى الزهد والورع
بحيث انه كان لا يقتنى شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا بل يلبس عارية, ولا يتجاوز
قميصا فى الصيف وفروة فوقه فى الشتاء وعلى رأسه قبعا من جلود المعز ... وكان لا
ينقطع عن غزاة من الغزوات, ويرمى عن قوس زنته ثمانون رطلا, ... وكانت له أحوال
ومكاشفات صالحة, وكان يقال له أسد الشام.
حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزى عن القاضى
جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع أنه شاهد مرة الشيخ عبدالله وهو يتوضأ من تور
عند الجسر الابيض اذ مر نصرانى ومعه حمل بغل خمرا, فعثرت الدابة عند الجسر فسقط
الحمل, فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه, واستعان به على رفع الحمل
فاستدعانى الشيخ فقال: تعال يافقيه, فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة,
وذهب النصرانى فتعجبت من ذلك وتبعت الحمل وأنا ذاهب الى المدينة فانتهى به الى
العقبة فأورده الى الخمار بها فاذا خل, فقال له: الخمار: ويحك هذا خل؟ فقال
النصرانى: أنا أعرف من أين أتيت, ثم ربط الدابة فى خان ورجع الى الصالحين فسأل عن
الشيخ فعرفه فجاء اليه فأسلم على يديه.
وكان الامجد اذا
دخل عليه جلس بين يديه فيقول له: ياأمجد فعلت كذا وكذا, ويأمره بما يأمره وينهاه
عما ينهاه عنه, وهو يمتثل جميع مايقوله له ...)).
قال الذهبى:
(( ولزمت الشيخ الامام المحدث مفيد الجماعة أبا الحسن على بن مسعود بن نفيس
الموصلى, وسمعت منه جملة, وكان دينا خيرا متصوفا متعففا قرأ ما لا يوصف كثرة وحصل
أصولا كان يجوع ويبتاعها, سمع بمصر والشام وعاش سبعين سنة, ومات سنة أربع وسبعمائة
وظهر له نصف جزء سمعه من أبى القاسم بن رواحة)). قال الشيخ عبد الحفيظ صاحب كتاب ائمة السلفية: (( هذا هو الشيخ
الوحيد من مشايخ الحافظ الذهبى الذى ذكر عنه أنه لزمه أما بقية المشايخ فقد ذكر
عنهم أنه سمع منهم فقط. فلاحظ)). والملاحظة مفادها أن من لزمه الذهبى , كما وصفه
الذهبى كان متصوفا, فاعجب من أناس لا يقرون واذا قراوا اعموا الحقائق فلا ينصفون.
وقال الذهبى: (( وسمعت من الامام المحدث
الأوحد الأكمل فخر الاسلام صدر الدين ابراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخرسانى
الجوينى شيخ الصوفية, قدم علينا طالب حديث وروى لنا عن رجلين من أصحاب المؤيد
الطوسى, وكان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الأجزاء حسن القراءة مليح الشكل مهيبا
دينا صالحا وعلى يده أسلم غازان الملك.
مات سنة اثنتين
وعشرين وسبعمائة وله ثمان وسبعون سنة رحمه الله)). أنظر
كتاب موقف أئمة الحركة السلفية من التصوف والصوفية – عبدالحفيظ بن ملك عبدالحق
المكى
أما عن دور
الصوفية فى تبليغ الاسلام, وتثبيت أركانه, فالق السمع منك الى بعض ما قيل فيهم.
قال الامير
شكيب أرسلان فى كتاب حاضر العالم الاسلامى تحت عنوان: نهضة الاسلام فى أفريقيا
وأسبابها: (( وفى القرن الثامن عشر والتاسع عشر حصلت نهضة جديدة عند أتباع
الطريقتين: القادرية والشاذلية, ووجدت طريقتان, هما: التجانية والسنوسية.
فالقادرية هم أحمس
مبشرى الدين الاسلامى فى غرب أفريقيا من السنغال الى بنين التى بقرب مصب النيجر.
وهم ينشرون الاسلام بطريقة سلمية بالتجارة والتعليم, وتجد التجار الذين من
الونينكة والماندجولة المنتشرين على مدن النيجر وفى بلاد كارتا وماسينة, كلهم من
مريدى الطريقة القادرية. ومن مريديهم من يخدمون فى مهنة الكتابة والتعليم, ويفتحون
كتاتيب ليس فى زوايا الطريقة فقط , بل فى كل القرى فيلقنون صغار الزنج الدين
الاسلامى أثناء التعليم, ويرسلون النجباء من تلاميذهم على نفقة الزوايا الى مدارس
طرابلس والقيروان وجامع القرويين بفاس والجامع الأزهر بمصر. فيخرجون من هناك طلبة مجازين,
أى أساتذة, ويعودون الى تلك البلاد لأجل مقاومة التبشير المسيحى فى السودان)).
وتحدث عن شيخ
الطريقة القادرية فقال (( وكان عبدالقادر الجيلانى الموجود فى جيلان من فارس
متصوفا عظيما زكى النشأة, وله أتباع لايحصى عددهم, ووصلت طريقته الى أسبانيا, فلما
زالت دولة العرب من غرناطة انتقل مركز الطريقة الى فاس, وبواسطة هذه الطريقة زالت
البدع من بين البربر, وتمسكوا بالسنة والجماعة, كما أن هذه الطريقة هى التى, فى
القرن الخامس عشر, اهتدى على يدها زنوج غربى أفريقيا.
وتحدث عن
السنوسية, ثم قال: ( وبالاجمال فان مريدى هذه الطرق هم الذين سعوا فى نشر الاسلام,
ووفقوا اليه فى أفريقيا).
وختم الأمير
شكيب أرسلان موضوعه عن نهضة الاسلام فى أفريقيا فقال: (( وأكثر أسباب هذه النهضة
الأخيرة راجعة الى التصوف والاعتقاد بالأولياء)).
فاذا كان هذا
عن دور الصوفية فى أفريقيا , فان لهم أدوارا أخر فى غير غارة أفريقيا, يقول أبو
الحسن الندوى عضو المجمع العلمى العربى بدمشق ومعتمد ندوة العلماء بالهند فى بحث
الصوفية فى الهند وتأثيرهم فى المجتمع, من كتابه المسلمون فى الهند: (( ان هولاء
الصوفية كانوا يبايعون الناس على التوحيد والاخلاص واتباع السنة, والتوبة من
المعاصى وطاعة الله ورسوله, ويحذرون من الفحشاء والمنكر والأخلاق السيئة والظلم
والقسوة ويرغبونهم فى التحلى بالأخلاق الحسنة والتخلى عن الرذائل مثل الكبر والحسد
والبغضاء والظلم وحب الجاه, وتزكية النفس واصلاحها, ويعلمونهم ذكر الله والنصح
لعباده والقناعة والايثار, وعلاوة على هذه البيعة التى كانت رمز الصلة العميقة
الخاصة بين الشيخ ومريديه انهم كانوا يعظون الناس دائما, ويحاولون أن يلهبوا فيهم
عاطفة الحب لله سبحانه, والحنين الى رضاه, ورغبة شديدة لاصلاح النفس وتغيير
الحال... وأصبحت الكبائر تشبه الكفر فى أعين الناس, وظل الناس يستحيون من التعامل
بالربا والادخار والاكتناز علنا, وندرت فى السوق حوادث الكذب والتطفيف والغش... ثم
قال: ان تربية هؤلاء الصوفية والمشايخ ومجالسهم كانت تنشى فى الانسان رغبة فى
افادة الناس وحرصا على خدمتهم ومساعدتهم...
وفى ختام البحث
قال الأستاذ الندوى: لقد كانت هناك بجهود هؤلاء الصوفية أشجار كثيرة وارفة الظلال
فى مئات من بلاد الهند, استراحت فى ظلها القوافل التائهة والمسافرون المتعبون,
ورجعوا بنشاط جديد وحياة جديدة )). حقائق عن التصوف .
وتحدث
الأستاذ أبو الحسن الندوى فى كتابه رجال الفكر والدعوة فى الاسلام عن الصوفية
وأثرها فى نشر الاسلام بصدد حديثه عن الصوفى الشهير والمرشد الكبير سيدى عبدالقادر
الجيلانى, فقال: (( وكان يحضر مجلسه نحو من سبعين الفا وأسلم على يديه أكثر من
خمسة آلاف من اليهود والنصارى, وتاب على يديه من العيارين والمسالحة أكثر من مائة
ألف, وفتح باب البيعة والتوبة على مصراعيه, فدخل فيه خلق لا يحصيهم الا الله,
وصلحت أحوالهم, وحسن اسلامهم, وظل الشيخ يربيهم ويحاسبهم, ويشرف عليهم وعلى
تقدمهم, واصبح هؤلاء التلاميذ الروحانيون يشعرون بالمسؤلية بعد البيعة والتوبة
وتجديد الايمان, ثم يجيز الشيخ كثيرا منهم ممن يرى فيه النبوغ والاستقامة والمقدرة
على التربية, فينتشرون فى الآفاق يدعون الخلق الى الله, ويربون النفوس, ويحاربون
الشرك والبدع والجاهلية والنفاق, فتنتشر الدعوة الدينية وتقوم ثكنات الايمان
ومدارس الاحسان ومرابط الجهاد ومجامع الأخوة فى أنحاء العالم الاسلامى.
وقد كان لخلفائه وتلامذته, ولمن سار سيرتهم فى الدعوة وتهذيب النفوس من
أعلام الدعوة وأئمة التربية فى القرون التى تلته فضل كبير فلى المحافظة على روح
الاسلام وشعلة الايمان, وحماسة الدعوة والجهاد وقوة التمرد على الشهوات والسلطات.
ولا لاهم لا بتلعت المادية التى كانت تسير فى رحاب الحكومات والمدنيات هذه الأمة,
وانطفأت شرارة الحياة ةالحب فى صدور أفرادها. وقد كان لهؤلاء فضل كبير لنشر
الاسلام فى الأمصار البعيدة التى لم تغزها جيوش المسلمين, أو لم تستطع اخضاعها
للحكم الاسلامى وانتشر بهم الاسلام فى أفريقيا السوداء وفى أندنوسيا وجزر المحيط
الهندى وفى الصين وفى الهند)). حقائق عن التصوف
عبدالقادرعيسى.
وان ننس فلا ننس رجالا, ساقتهم التربية
الصوفية الى الثورة على الظلم والظالمين فى غير أفريقيا, منهم الشيخ سعيد الكردى
النقشبندى فى تركيا, والشيخ شامل النقشبندى فى تركستان.
جاء فى
كتاب- صفحات من تاريخ الاسلام والمسلمين فى بلاد السوفيات- للشيخ طه الولى من
لبنان.
(( ان القادة
العسكريين الأوربيين فى 1843م كانوا يقولون ( هناك رجلان فى العالم الاسلامى يجب
أن يطلق عليهما اسم عظيمين: الأمير محمد شامل فى القفقاس والأمير عبدالقادر فى
الجزائر). يقول... حفيد هذا الامام- سعيد شامل- الذى هو اليوم عضو فى المجلس
التأسيسى لرابطة العالم الاسلامى بمكة المكرمة, قال لمندوب جريدة العالم المغربية:
ولقد قال أحد القوات الروس الذين قاتلوا الامام وأسروه ( لولا وقوف هذا الشعب- اى
القفقاسيون- المقاتل فى طريقنا لكنا وصلنا الى النيل غربا والى بحر اليابان شرقا
بفضل القوات التى خصصناها للحروب القفقاسية). انتهى مختصرا.
لقد أبان
الباحثون المعاصرون ما للغزالى من دور بارز فى ميادين المعرفة, فقال رجلان منهم
وهما
صاحب كتاب الخوالد
من آراء حجة الاسلام الغزالى صلاح الدين الناهى قال: (( كان همه- يعنى الغزالى- أن يسهم فى تحسين حياة الانسان, وأن يعلو به فى
مراتب الحياة الروحية والنفسية والجسمية وكان يحب الفضيلة لذاتها, ويحب للمجتمع أن
يكون فاضلا, ويحب للانسان أن يسير فى معارج السمو والكمال)).
ثم يقول :((
ولئن أسرف ناقدون فنسبوا اليه تحطيم هيكل الفلسفة, فقد خفت وطأة هذا اللوم فى
عصرنا, وأدرك الناقدون المعاصرون أن الغزالى لم يكن قصده هدم صرح الفلسفة, ولكن كان
همه الذب عن التوحيد.
لقد كان
الغزالى قائدا محنكا بعيد الغور واسع الصبر فى أكثر من ميدان: فى الدفاع عن
التوحيد, وفى ميدان الأخلاق, وفلسفة التشريع, وحسبه أن يحسن القيادة فى مختلف هذه
الجهات الفكرية العويصة, والمتاهات الشاسعة, وأن يخلف وراءه ذكرى خالدة فى الاسلام
والمسيحية – لأنه كان كثيرا ما يستشهد فى
كتبه والأخلاقى منها خاصة بأقوال وحوادث السيد المسيح- , وفى نفوس جميع المسلمين
فى جميع بقاع الأرض, فقد كان علما شامخا من أعلام الاسلام)).
وقال الآخر وهو
صاحب كتاب السلفية محمد سعيد البوطى: (( وما عرف تاريخ الفلسفة رجلا مزق الأوهام
الفلسفية بمباضع المقاييس الفلسفية ذاتها, وانتصر للحق الذى دل عليه كتاب الله عز
وجل, بالاصطلاحات الفلسفية نفسها, كالامام
الغزالى... )).
وهذا الذى ذكر فيما
يتعلق بالفلسفة تصدق به المقالة التى تقول ( لو لا الغزالى لهدمت الفلسفة الاسلام)
لقد أوجده الله لمهمة شاقة فكان لها أهلا, فذب عن الدين وحمى حماه.
جاء فى ما سبق
أن الغزالى, خلف وراءه ذكرى خالدة فى المسيحية, وقد أوضحنا علة ذلك الخلود بأن
الغزالى تناول فى أخلاقياته سيرة السيد المسيح, ولا عجب فى ذلك , فثناء الاسلام قرآنا
وسنة على السيد المسيح وأمه, كان من
الأسباب الدافعة للنجاشى فى أن يدخل فى الاسلام. ولا عجب كذلك أن تجد اناسا تأسوا
بأخلاق دينهم, فحملوا اليهود والنصارى على احترامهم, وتقدير صنيعهم!
جاء فى معجم
البلدان لياقوت الحموى فى ذكر شيراز قال : (( ... ومن الزهاد أبو عبدالله محمد بن
خفيف الشيرازى شيخ الصوفية ببلاد فارس وواحد الطريقة فى وقته, كان من أعلم المشايخ
بالعلوم الظاهرة, صحب رويما وأباالعباس المقدسى وصار من أكابرهم, توفى بشيراز سنة
371 عن نحو مائة وأربع سنين, وخرج مع جنازته المسلمون واليهود والنصارى,)).
فتأمل قوله وخرج مع جنازته المسلمون واليهود
والنصارى , لتدرك حقا الأثر العظيم الذى
يخلفه هؤلاء القوم فى نفوس العالمين. منطلقين من قول رسول الله(ص): (( انما أنا
رحمة مهداة )). الدارمى. فترجموا هذه الرحمة سلوكا
عمليا, مستصحبين يوم مرت جنازة يهودى برسول الله(ص) فقام , فقالوا انها حنازة
يهودى, فقال عليه الصلاة والسلام: (( أليست نفسا )). البخارى
الجنائز.
حدثنى أحد الأصدقاء بينما هو فى
القاهرة يسأل شخصا عن ضريح العارف أبى العباس المرسى,ظهر له أن المسئول على ذراعه صليب, فقال له : (( يابختك انت عايز تزور المرسى
أبو العباس)). ثم أرشده الى الطريق.
ولو تأملنا حال النصرانى حامل الخمر والذى
انقلبت الى خل, لما أعانه على رفعها حال سقوطها على الأرض, الشيخ اليونينى, اذ قال
له الخمار لما أوصلها اليه : ويحك هذا خل! فقال النصرانى : أنا أعرف من أين أتيت,
فجاء الى الشيخ فأسلم على يديه. لأدركنا أن هذا الحال الصارفة نتائجه عبدا من
الكفر الى الايمان, فى غير ما زمن ولا تفكير , الا الانبهار , لا يكون الا
للصادقين الخلص, وهم الذين أمرنا الله أن نصبر أنفسنا معهم,(( واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه )). وأن نكون معهم (( وكونوا مع الصادقين )).
خلاصة وخاتمة
هذه بعض النماذج تناولت بعضا من شيوخ الصوفية,
سقناها للعبرة فقط,, لان البحث لا ينتهى عندها بل يشملها مع قضايا متنوعة نخلص
منها الى أن الفكر الوهابى, اذا كان يعلم
أن للآخر هذه الذخيرة المعرفية, وهذا التاريخ الناصع فى نشر الاسلام وتمكين أركانه ولا يزال , ثم يسعى الى اقصائه
بكل طاقاته المسخرة لذلك, فهو بلا شك فكر خرج من منابع التطرف لا من منابع الرحمة
المهداة . وجاز لنا أن نصف الوهابية بالمتطرفين الاقصائيين, لما قدمنا لك فى بحثنا
هذا, كذلك جاز لنا أن ننزل عليهم ذات الوصف الذى وصف به رسول الله ذا الخويصرة((
ان من ضئضى هذا- أو فى عقب هذا- قوم يقرؤون
القرآن لا يجاوز حناجرهم )). البخارى كتاب الانبياء متنطعون , سطحيون, ليسوا أهلا
للنظر ولا الاستدلال, وذلك لعلاقة أكيدة بين الطائفتين فى تعسفها لتمجيد ما عندها,
وتحقير ما عند الآخرين, فذو الخويصرة حمله توهمه فى دفاعه عن الحق- فى ظنه- أن
يدخل فى ضمير رسول الله فينقب فيه فيخرج منه بفهم مفاده أن هذه قسمة ما أريد بها
وجه الله فينادى رسول الله: (( اعدل يامحمد )). والوهابية ألزموا مخالفيهم ما لم يعتقدوه,
واستنطقوهم ما لم ينطقوا به, وأنزلوا عليهم آيات تناولت حال المشركين فى شركهم ظنا
منهم أن ما يفعله الآخرون من تبرك وتوسل هو الشرك بعينه من غير اعتبار للقول الآخر.
فاذا قال لهم
المتوسل جاء فى فتح البارى فى كتاب الاستسقاء ( وروى ابن أبى شيبة باسناد صحيح من
رواية أبى صالح السمان عن مالك الدار- وكان خازن عمر- قال أصاب الناس قحط فى زمان
عمر فجاء رجل قبر النبى فقال: يارسول الله استسق لامتك فانهم قد هلكوا .... ). وقد
سبق الكلام عن هذا الأثر فى بحثنا هذا, ومفاده أن الرجل جاء الى قبر رسول الله
وطلب منه الاستسقاء, ولم ينكر عليه عمر فعله هذا. فلو قال لهم المتوسل- بعد أن صحح
ابن حجر هذه الرواية, فى قوله – وروى ابن أبى شيبة باسناد صحيح- ان فعل هذا الرجل-
والذى لم ينكر عليه عمر - هو مرتكزنا فى
صحة ما نفعل. فماذا هم قائلون؟ !
واذاذكرنا هذه الواقعة مرتكزا للمتوسلين مع ما
سبق من بيان, فما هو الوصف الذى يغشاها من الوهابيين؟ هل يردونها؟ أم هل يحملهم
الحفاظ على وحدة الأمة الى القول بحق الآخر فى الاختيار مادام هذا الآخر لا يعدم الدليل لتأصيل مايعتقده ؟ وهو ما
نطلبه منهم. ولكن الواقع يكذب هذا الرجاء.
أقول ان التعايش السلمى المفضى بالناس الى خلق
دولة ايمانية تحتضن غير المسلم, يتعذر بين المسلمين أنفسهم خلقها, وذلك من مقولات يطلقها الوهابية
أغربها وأشنعها: (( نحن لا تجمعنا مع الصوفية حتى لا اله الا الله )). ان مثل هذا
التوصيف جدير بنا أن نصفه بأن لا تلاق, واذا انعدم التلاقى, كان التناحر, وكانت
الخصومة.
وهم
يلوكون هذه العبارة, ولا يمر بخاطرهم قول النبى(ص) لأسامة (( هلا شققت عن قلبه )).
ليستيقن-أعنى أسامة- أن المحارب الذى قتله , قالها- أى لا اله الا الله - خوفا من
السيف!
ان التنطع فى
الدين يضر بصاحبه, فبعد حين يهلك ويهلك, وهذا الفكر فى مساره بلغ هذه الغاية,
وأدرك ما حذر منه رسول الله (( هلك المتنطعون )) مسلم-
كتاب العلم- باب هلك المتنطعون , وحتى
يصحبنا الدليل ننقل لك ما حدث به صاحب
كتاب السلفية, عن الآثار الضارة, والمترتبة على شيوع السلفية- والسلفية التى
تناولها الباحث تعنى عندنا بلا ريب الوهابية- يقول: (( ولسوف أكتفى بذكر بعض
الآثار, فربما كان فى ذلك غناء عن الاطناب والاستقصاء. ولسوف أقتصر من ذلك على
أمرين فقط: - ونحن نذكر بعضا من الأمر الأول للعبرة فقط-
الأمر الأول: الأذى
المتنوع البليغ الذى انحط فى كيان المسلمين من جراء ظهور هذه الفئة المبتدعة- يعنى
مايسمى بجماعة السلفية- فلقد أخذت تقارع وحدة المسلمين, وتسعى جاهدة الى تبديد
تآلفهم وتحويل تعاونهم الى تناحر وتناكر. وقد عرف الناس جميعا أنه ما من بلدة أو
قرية فى أى طرف من أطراف العالم الاسلامى, الا وقد وصل اليها من هذا البلاء شظايا,
وأصابها من جرائه ما أصابها من خصام وفرقة وشتات. بل ما رأيت أو سمعت شيئا من
أنباء هذه الصحوة الاسلامية التى تجتاح اليوم كثيرا من أنحاء أوربا وأمريكا وآسيا,
مما يثلج الصدر ويبعث على البشر والتفاؤل, الا ورأيت أو سمعت بالمقابل من أخبار
هذه الفتنة الشنعاء التى سيقت الى تلك الاوساط سوقا, ما يملأ الصدر كربا ويزج
المسلم فى ظلام من الخيبة الخانقة والتشاؤم الاليم.
كنت فى هذا
العام المنصرم 1406ه واحدا ممن استضافتهم رابطة العالم الاسلامى للاشتراك فى
الموسم الثقافى, وأتيح لى بهذه المناسبة أن أتعرف على كثير من ضيوف الرابطة الذين
جاؤوا من أروبا وأمريكا وافريقيا, وأكثرهم يشرفون فى الأصقاع التى أتوا منها على
مراكز الدعوة الاسلامية أو يعملون فيها. والعجيب الذى لا بد أن يهيج آلاما ممزقة
فى نفس كل مسلم أخلص لله فى اسلامه, أننى عندما كنت أسأل كلا منهم عن سير الدعوة
الاسلامية فى تلك الجهات, أسم=ع جوابا واحدا يطلقه كل من هؤلاء الاخوة على انفراد,
بمرارة وأسى, خلاصته: المشكلة الوحيدة عندنا هى الخلافات والخصومات الطاحنة التى
تثيرها بيننا جماعة السلفية.. )). السلفية للبوطى ص
244-245.
(( ونقول:
كان لا بد أن يحدث هذا بعد أن وضع الوهابيون دعوتهم فى هذا الاطار الذى يحصر
الاسلام فى دعوتهم, ويجعل كل من انحرف عنها منحرفا عن الاسلام داخلا فى مداخل
الكفر والالحاد. ونجد هذا واضحا فى الكتب التى ألفها علماء الوهابيون ووصفوا فيها
الحروب الدائرة بينهم وبين خصومهم, فقد كانوا يصفون جيشهم بأنه جيش المسلمين,
تفرقة بينه وبين جيش العدو. على نحو ماتصف به كتب المغازى جيش المسلمين فى مواقعه
مع الكفار من قريش وغير قريش)). الدعوة الوهابية عبدالكريم الحطيب.
ويقول
محمد بن عبدالوهاب فى رسالة بعث بها الى شيخ الركب المغربى فى موسم الحج- فبعد أن
ذكر الشرك فى الأمة والتوحيد الذى يدعو اليه- (( فهذا هو الذى أوجب الاختلاف بيننا
وبين الناس- لاحظ قوله بيننا وبين الناس ولم يقل بيننا وبين المسلمين- حتى آل بهم
الأمر الى أن كفرونا وقاتلونا- وهو البادى بتكفير الآخر وقتله- واستحلوا دماءنا
وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وأظفرنا بهم, وهو الذى ندعو الناس اليه, ونقاتلهم
عليه بعد مانقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله واجماع السلف الصالح من
الأمة- فانظر الى تهويله حتى يحسب الجاهل أن الحق لا يفارق أقواله- ممتثلين بقوله
سبحانه وتعالى: (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)), فمن لم يجب
الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان, كما قال تعالى (( لقد أرسلنا رسلنا
بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس
شديد ومنافع للناس)).
ثم يمضى فى
بيان معتقده الى أن يقول: (( فهذا الذى نعتقده وندين به, فمن عمل بذلك فهو أخونا
المسلم, له مالنا وعليه ما علينا...)). الدعوة الوهابية
عبدالكريم الخطيب ص
هذا هو الفقه الأكبر عندهم والذى حملهم الى
تقسيم الأمة الى فسطاطين, وهابيين وهم الفرقة الناجية وغير وهابيين وهم الفرقة
الهالكة.
ولا يدور بخلد
هؤلاء الناس قوله (ص) : (( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) ابن ماجه
كما
نسوا أو تناسوا قوله(ص): (( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقى الله مكتوبا بين
عينيه آيس من رحمة الله)). سنن بن ماجه – ص 916.
(( ورواه
الاصبهانى وزاد: قال سفيان بن عيينة: هو أن يقول: اق. يعنى لا يتم كلمة اقتل...
وروى البيهقى نحوه من حديث ابن عمر)).
والكلام عن هذا الحديث قالوا: (( مسوق
لتعظيم القتل وتهويل أمره)).
الرد المحكم
المنيع على منكرات وشبهات ابن منيع. يوسف
السيد هاشم الرفاعى, عضو مجلس الأمة ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء الكويتى
سابقا- الطبعة الأولى 1984م. والأحاديث فى هذا الصدد فى الصحيح وغير الصحيح من
الحديث لا تحصى .
فاعجب من من أكمل شطر الكلمة فصارت-
الكلمة- اقتل, وزد عجبا من من باشر بيده القتل.
ولا بأس
أن نستطرد هنا ونقول: ان هذا الفكر أوغل فى الخصومة مع الآخر, وامتدت أطرافه الى
أقاصى الأرض, نحيلك الى رجلين من المغاربة, أحزنهم ما أحزن العقلاء من جرأة هؤلاء
الناس, على عباد الله.
جاء فى كتابهما التحذير والاغترار- وهو رد موفق على ابن منيع
فى تهجمه على العلوى المالكى-
يقول:
(( هذا الكتاب الذى أسماه صاحبه- يعنى ابن منيع- حوار مع المالكى هو رصاصة موجهة الى العالم الاسلامى,
وبندقية مفتوحة فى صدره, لتأكيد التفرقة, وتجديد الخلاف, وتعميق الشقاق)). التحذير من الاغترار بما جاء فى كتاب الحوار- عبدالحى العمورى,
عبدالكريم مراد. ص 11 الرباط 1984 م .
ولعلك تتساءل
كيف يكون كتاب الحوار رصاصة موجهة الى العالم الاسلامى؟ أجيبك أن الأفكار التى
يحملها ويدعو اليها المالكى, هى ذات الأفكار التى يحملها السواد الأعظم من أمة
رسول الله(ص),- من احتفال بالمولد, وتبرك, وتوسل بصاحب المقام المحمود, وبمن سار
على هديه من الصالحين- فاذا أنصب الهجوم عليها, وجد من يقاومه, من أمة لا تنتهى
عددا, عندها تتوحد منهم الطاقات- والتى كانت مسخرة للبلاغ والدعوة- فى ثغر واحد وهو
رد هذا الفكر الذى يتهمهم فى عقيدتهم, ويكذب انتماءهم الى الاسلام, حينها تخلو
الثغور, فينفذ منها العدو.
أقول عن
الصوفية أمة لا تنتهى عددا (( لأن تسعين بالمائة من الأمة الاسلامية خلال قرون
متعددة لهم صلة بالتصوف وأهله بشكل من الأشكال اما بالاشتغال فيه أو بالتلمذة على
أهله أو بالصلة بهم أو بالثقة فيهم أو بالانتساب الاسمى لهم أو لمن تتلمذ عليهم
ولا زال التصوف وأهله حتى الآن هم الذين يصلون الى بيئات ومناطق لا يصل اليها
غيرهم.... )) . كتاب
تربيتا الروحية سعيد حوى. والرجل من كبار الاخوان المسلمين السوريين.
ولا يرتاب
العقلاء أبدا, فى أن الصوفية هم حماة
الدين وحراس العقيدة, لا تفتر لهم همة ولا تضعف لهم عزيمة.
(( تحدث الأستاذ
أبو الحسن الندوى فى كتابه روائع اقبال عن زيارته للشاعر بعد أن ذكر اقبال التصوف
ورجاله والتجديد الاسلامى فى الهند بواسطتهم, وبعد أن أثنى على الشيخ أحمد
السرهندى والشيخ ولى الله الدهلوى والسلطان محى الدين أورنك زيب رحمه الله تعالى,
قال: اننى أقول دائما لولا وجودهم وجهادهم لابتلعت الهند وحضارتها الاسلام)). حقائق عن الصوفية – عبدالقادر عيسى.
فاذا انشغل من
هذا حالهم بمواجهة الخصوم , فما النتيجة
المنتظرة؟
واذا جاء من يصد
الشباب- وأخصهم بالذكر لأنهم طلائع النصر- عن حياض الصوفية الا يردوها أفلا يكون
معول هدم؟
أقول لا بأس أن نرجع الى صاحبى كتاب التحذير
لنستوضح منهما قيمة هذا الهدم:
(( معاول
الهدم : ومعنى هذا بالعبارة الصريحة الواضحة: أن الأعداء يحملون المعاول لهدم
الاسلام من الأطراف, ونحن نحمل المعاول لهدمه من الوسط والأعماق. والذى يهدم من
الوسط, وفى العمق أخطر من الذى يهدم من الطرف, لأن هادم الوسط يخلخل البناء,
ويزعزع الأركان, ويمهد للهدم, فهو الرائد للعدو, والموطا للداخل, والممهد
للتكسير)).
فاذا كان
هؤلاء معاول الهدم. فمن هم صناع الرجال؟
تحدث الباحث الطيب محمد الطيب عن قبور الحبشة,
وانتهى الى قوله : (( وجميع أهل هرر يتمسكون بالطريقة السمانية وحينما زرتهم فى
1983م علمت أن الرجل الراشد ينبغى أن يسافر الى السودان لأخذ الطريقة السمانية
ونهجوا منذ عهد بعيد هذا المنهج, وعلمت سنة 1983م أن من يأخذ الطريقة السمانية من
بلدة أم مرح يسجل فى قائمة مع السابقين له وعلمت أن الذين سلكوا الطريق السمانى فى
منطقة الشيخ الطيب ود البشير بلغ هذا العدد اثنتى عشر ألف شيخ فهؤلاء حينما يموت
منهم رجل يبكون بالدموع نساء ورجالا ولا يولولون مثلنا فهم أقرب منا لآداب السنة
وقبورهم مثلنا)). صحيفة حسن الخاتمة العدد 587 – 16 ربيع
الأول1426ه.
أفدنى فهل
يعقل من صد عن قوم شغلهم صنع الرجال, وأى
رجال! (( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)).
ولنمض قليلا فى بيان
حال من يريد الوهابية تدمير حصونهم!
يحدثنا الأستاذ
صبرى عابدين فى ندوة لواء الاسلام- العدد العاشر- السنة التاسعة1956م- عن الصوفية : ((... والواقع أن الصوفية ينشرون
الاسلام فى العالم, وأذكر لكم أنه منذ خمسين عاما كتب الشيخ البكرى كتابا ذكر فيه
نقلا عن المبشرين يقول: ان هؤلاء يقولون- يعنى المبشرين-: ما ذهبنا الى أقاصى
المناطق البعيدة عن الحضارة والمدنية فى أفريقيا وأقاصى آسيا الا وجدنا الصوفى
يسبقنا اليها, وينتصر علينا )). حقائق عن التصوف –
عبدالقادر عيسى
الخلاصة التى ننتهى اليها تقول ان الوهابيين لن
يكونو ضامن تحول أصيل وراسخ للأمة اذا استصحبوا هذا الفكر الازمة فى مسيرة التحول
المنشود, لاشكاليات فيه قد فصلنا بعضها فى بحثنا هذا, وعساك تجد فيه- هذا البحث
المتواضع- محركا لك ودافعا للنظر الفاحص المتأنى فى مناهج هؤلاء القوم, الطافحة
بالرعونات , ومضلات الفتن, والتى يتسم أصحابها بقليل القراءة, وضحالة البحث
والاستقصاء, مع احادية فى الأحذ والتلقى, والتى هى سمة بارزة واشكالية حقيقة فى
الفكر الوهابى.
نقول : مهما أعملت
الفكر فى البحث فى قضايا الاسلام, وأنت تحمل آليات البحث, وسلامة المقصد, فقد ضمن
لك الله أن ترجع بأجرين عند الاصابة, وبأجر عند الخطا. فالعاقل أبدا من يجد مندوحة
للآخرين مادام الله من وراء القصد, وما وجد للراى المجتهد فيه مرتكز يعول عليه.
لأن أخراج نفس واحدة من الاسلام بغير حق أعظم من
ادخال الألوف فيه عند الله. ولو خيرت العاقل فى أن يشير على فلان بالكفر, أو يزيل
جبلا من مكانه كان أهون عليه أن يزيل جبلا من مكانه, وذلك لما يحيط بالتكفير من
مفاسد, ولما يخاف العاقل من أطلاق الكفر من شديد الوعيد. قال عليه الصلاة والسلام:
(( أيما رجل قال لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما )) متفق عليه.
وقد ذكرت فى ثنايا هذا البحث أن الصوفية, ومن
يحبهم هم السواد الأعظم من أمة رسول الله(ص)- وهذا بشهادة الوهابيين أنفسهم تجد
ذلك فى حديثهم عن الأضرحة المنتشرة فى العالم الاسلامى وفى زوارها وعمارها - فان
أخرجتهم من دائرة الاسلام فمن تركت فيها.
ان المنهج المحمدى فى تزكية النفوس قائم على
تعميق الأخلاق الكريمة فى قلوب الناس, ونبذ ماسواها من انحرافات قد تأسس الخلاف
بين الأمة الواحدة. فهو القائل: (( اياكم والظن, فان الظن أكذب الحديث, ولاتحسسوا,
ولا تجسسوا, ولا تنافسوا, ولا تحاسدوا, ولا تباغضوا, ولا تدابروا, وكونوا عبادالله
اخوانا )). متفق عليه
وحتى ندرك قيمة هذه الأخوة, ونحافظ على سلامتها
ونسارع بالعلاج الناجع اليها اذا سعت اليها الخصومة, نتأمل قول رسول الله(ص): (( الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة
والصدقة؟ قالوا بلى, قال: صلاح ذات البين, فان فساد ذات البين هى الحالقة)). رواه الترمذى ويروى عن النبى أنه قال: (( هى الحالقة, لا
أقول تحلق الشعر, ولكن تحلق الدين)).
والمسلم العاقل يعلم مضامين هذا البيان المحمدى,
فيصلح ذات البين لينال أفضل الدرجات, ويدرك خطورة السعى فى فساد ذات البين, فيرحم
نفسه أن ترد مواطن التهلكة.
ختاما لابد من
قبول الآخرالمسلم, لأن بطاقته التى سيلاقى بها ربه, منقوشة فى قلبه (( أشهد أن لا
اله الا الله وأشهد أن محمدا رسول الله )). فلا حاجة لنا بعد أن ننقب فى قلبه
لنستخرج اليقين منه.
وليعلم الوهابية أن الاسلام دين وسط بين افراط
وتفريط,, يبغض صاحبه صلى الله عليه وسلم الثرثارون والمتشدقون, ويحب أهل مكارم
الأخلاق فقد قال(ص): (( إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأقْرَبِكُمْ مِنِّي
مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً، وإِنَّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ
إِلَيَّ وَأَبْعَدِكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةَ الثَّرثَارُونَ
وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ ، قاُلوا: يا رسولَ الله قَدْ عَلِمْنَا
الثَّرثَارِينَ وَالمُتَشَدِّقِينَ فَما المُتَفَيْهِقُونَ؟ قال المُتَكَبِّرُونَ»
. رواه الترمذى
والثَّرْثَارُ: هُوَ الكَثِيرُ الْكَلامِ، وَالمُتَشَدِّقُ:
الْذِي يَتَطاوَلُ عَلَى النَّاسِ في الْكَلامِ ويَبْذُو عَلَيْهِم.
وهو
القائل (ص) : (( ألا أخبركم بخياركم؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: الذين اذا رؤوا
ذكر الله عز وجل. ثم قال: ألا أخبركم بشراركم: المشاؤون بالنميمة, المفسدون بين
الأحبة, والباغون للبرآء العيب )). مسند أحمد
وقد حذر صلى الله عليه وسلم من التنطع فى الدين
فقال: (( هلك المتنطعون )). قالها ثلاثا. قال الامام النووى فى شرح مسلم : (( قوله
صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون» أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في
أقوالهم وأفعالهم )). (( فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء وتسموا خصوما
وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كل شيء)). قاله ابن حجرفى الفتح
واذا بلغنا
هذه الحالة الأزمة- ولا نرتاب فى وجودها- يقول لنا عدونا المتربص بنا- من الانس
والجن- فلا تلومونى ولوموا أنفسكم.
تم بحمد
الله كتاب الوهابية والمسلم الآخر
ليلة الأثنين 14 جمادى الأولى 1427
ه-الموافق له 10 يونيو 2006
المراجع:
القرآن الكريم
التفاسير: الطبرى, القرطبى, النسفى, البغوى, ابن كثير,
الجلالين, الدر المثور.
الحديث: البخارى شرح فتح البارى – مسلم شرح النووى- مسند
أحمد- سنن الترمذى- سنن الدارمى.
مراجع عامة:
الروض الانف للسهيلى شرح السيرة النبوية لابن هشام - سير
أعلام النبلاء للذهبى- الاصابة لابن حجر- الدرر الكامنة لا بن حجر- الطبقات الكبرى
لابن سعد- معجم البلدان للحموى- الرسالة القشرية- لطائف المنن للشعرانى- المنقذ من
الضلال للغزالى.
فقه السيرة للبوطى- حياة الصحابة للكاندهلوى- تبرك الصحابة
بآثاره(ص) محمد طاهر الكردى المكى- الرد المحكم المتين للغمارى- مفاهيم اسلامية-
مقالات وفتاوى- الشيخ الدجوى- حقائق عن التصوف عبدالقادرعيسى- احياء المقبور من
أدلة جواز بناء المساجد على القبور عبدالله الصديق الغمارى- موقف ائمة السلفية من
التصوف والصوفية عبدالحفيظ بن ملك عبدالحق المكى- السلفية مرحلة زمنية مباركة لا
مذهب اسلامى محمد سعيد رمضان البوطى- التحقيق واليضاح لابن باز- فتاوى ابن عثيمين-
تربيتنا الروحية سعيد حوى- الخوالد من آراء حجة الاسلام الغزالى صلاح الدين
الناهى- صفحات من تاريخ الاسلام والمسلمين فى بلاد السوفيت الشيخ طه الولى من
لبنان- صحيفة حسن الخاتمة- السودان- العدد 587.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق